بين أجنحة التناقض يحلق العلم والفن في سماء البشرية ليصنعا حضارة تجمع من سمات العمومية والخصوصية ما يجعلها تسجل دورة في أشواط التاريخ, لكن ذلك لا ينفي وجود تشابكات تعمل علي دعم أوصال الكيان الإنساني ليس المشتت بين هذه أو ذاك, بل المتهالك علي إقامة الصلات القوية ليكون محور الارتكاز بعيدا بعيدا عن احتمالية الاختلال. فالعلم تصارعه التحديات ليكون شاهدا علي نشوء أطوار عقلية جديدة والفن أيضا يصارعه الطموح للكشف عن أعمق أعماق النفس في أطوارها وتباينتها المتجددة وخوافيها الثرية وشجنها الأبدي وأفراحها الهامسة وهواجسها الدفينة, فبين ذاتية الفن وجلاله وموضوعية العلم ووقاره ورفعته تتمحور معاني الجمال, الروعة, الفتون, الإعجاز, الخيال, الإيحاء, الإغراب, الملكة, الثورية, الإعجاب, الاستغراق, العبقرية, تلك التي يبثها توقد الحس, عصف الشعور, وومض الإلهام, تشوف الروح, استهواء العاطفة وجمالية الاتساق, نقاء الخاطر, وكذلك تتمحور معان أخري مغايرة هي الدقة, التحديد, المنهج, المفهوم, التجريد, النظرية, التجربة, التحليل, العلة, الآلية, المنطق. تلك التي ترتكز علي القواعد والشرطيات والمبادئ والأفكار والفرضيات والتساؤلات, وعلي ذلك يتجلي أن العلم والفن هما من يمثل جدلية المعادلة الزمنية, فإذا كان العلم يستهدف ارتقاء الواقع الإنساني ونشوء ظاهرة الإنسان الأعلي الذي حقق إشباعا غير مسبوق متسيدا الوجود ومعلنا نشوته بسحق التحديات, فإن الفن هو ما يمثل قمة هرم الاحتياجات الإنسانية لأنه في ذاته هو الحاجة العليا التي تتطلب إشباعا خاصا أو هي الحاجة التي كلما أشبعها الإنسان شعر بإنسانيته وتميزه وذلك طبقا لهرم إبراهام ماسلو صاحب النظرية الشهيرة في تدرج الحاجات الإنسانية لدي الأفراد والشعوب بيولوجيا واجتماعيا ونفسيا, فمن سفح هذا الهرم تتجسد الحاجات الأساسية للعيش بلوغا نحو أرقي الحاجات المتمثلة في تحقيق الذات... ولعل تحقيق الذات يعد مشتركا عادلا بين غايات العلم ومرامي الفن, لكن هل الذات الإنسانية المعاصرة تعد متحققة بالفعل في لحظتها هذه أم تراها منزوية بحكم جمود المسار التطوري؟, فإبداعات وإعجازات العلم والفن لم تعد لها من الوهج والبريق ما كان من قبل نحو أربعة عقود, فمسيرة العلم قد أخذت نسبيا مسار الشطح والتطرف وصارت إنعكاساتها علي الواقع يشوبها الكثير والكثير من السقطات الباعثة علي إستحداث طاقات الشر وكذلك حافلة الفن لم تعد وسيلة حية فاعلة في تناقل خبرات الوعي بين الثقافات والحضارات لأنها لم تعد أيضا مجسدة للتعبير الجمالي والوجداني والمعرفي الأمثل الذي يثري الموجودات بروح المعني بينما الفنان هو دائما من يأتي بالعجائب والمذهلات المنبثقة من فيض عالم داخلي يموج بتنويعات صوفية تداعب عوالم أخري تمنحه يقظة استثنائية يسجل خلالها إشراقة متألقة في ملحمة الفنون, وعلي ذلك يمثل كل من موقف العلم والفن دعوة كبري لتحريك تساؤلات قابعة في بؤرة الوعي وكامنة في هامش الشعور واللاشعور حول مستقبل ركيزتين من ركائز الحياة الإنسانية ليس من منطلق الشغف والفضول بل من دافعية القلق والحيرة القائدة للتواجه مع متوالية استفهامية يتقدمها: هل مازالت وضعية الفن مرتبطة بمفهوم كونه حصيلة نشاط فكري وجداني يشتمل علي عناصر حسية تخيلية إبداعية ويتسم بدلالات رمزية؟ وهل أصبح بالفعل يمثل رأسمال ثقافي ذا قوة مركزية؟ وكيف ولماذا تحرر الفن المعاصر من تاريخ الفن؟ وكيف زحزحت تيارات القبح المستشرية عرش الفن بل باتت مهددة لوجوده حين استباحت القيم الذوقية؟ وهل لا يزال يقوم علي تحليل المفاهيم الكاشفة عن فساد الوعي؟ وهل يعبر بالتحولات الجذرية التي يتمخض الإنسان داخلها إلي آفاق أكثر تفاؤلية؟ وإذا كان الفن قد ظل حاملا للسرديات الدينية وظل الإنسان البدائي في حالة التصاق مطلق بالمعتقد فهل حقق الفن المعاصر تواصلا حميميا مع قضية أزلية أبدية كتلك لا سيما وأن هذه القضية قد أوردوها موارد التهلكة وأدخلوها دوائر التطرف ملصقين بها شبهات وأكاذيب ولم يكن للفن المعاصر رسالة فيها؟ ومن ذلك هل يمكن اعتماد الفن كرؤية للعالم تعد كاشفة عن الأغوار والمكنونات المستعصية علي الإيجاب؟ وكذلك فإن وضعية العلم تبسط لدينا العديد والعديد من التساؤلات التي نكتفي منها بذلك السؤال المفصلي المرعب في اللحظة المعاصرة إذ كيف يكون مستقبل العقل الإنساني بقوته التاريخية التي أنتجت كل معطيات التراث العلمي وقد أحيل إلي أيقونة متحفية كانت شاهدة علي وجوده ذات آن؟!