لم تقتصر حياة الفيلسوف الفرنسي الشهير إدجار موران علي مجرد طرح نظرية فلسفية وأفكار علوية تستعلي علي الواقع الإنساني المعاصر مما أضفي علي فكره طابعا اجتماعيا متميزا وفي هذا الإطار أخرج للعالم كتابيه النموذج المفقود والمنهج وناقش فيهما قضايا الإنسان علي اختلافها جامعا بين علوم البيولوجيا ونظريات الإعلام وقدم تساؤلات تحليلية حول علاقة الإنسان بالعلم الفيزيقي متطرقا إلي مناقشة الأزمات التي تواجه المجتمعات الإنسانية انطلاقا من أن مناقشة هذه الأزمات الروحية والاجتماعية إنما تمثل انطلاقة خاصة نحو كشف أعماق الحقائق ومؤشرات التطورات المستقبلية, وقد تفاءل موران بالكشف عن هذه الأزمات لأنها تجبر أي نظام في أي مجتمع علي نقد ذاته, إذ إن الأزمات الكبري في التاريخ كانت لها فاعلية إيقاظ الوعي الإنساني ودفعه نحو استحداث مناهج وطرائق جديدة للتفكير الحر. وضمن أشهر آراء موران التي قدمها في كتابه مقدمة لسياسة انسانية هو ان البربرية تعاود الظهور وبشراسة في المجتمع المعاصر بسبب النظام البيروقراطي السائد وبسبب الخلط المشوه للواقع عن طريق اختزال أبعاده في الكم دون النظر إلي الكيفيات المتداخلة عن طريق الاستقلال النسبي للنتائج العلمية بحيث توجه كأدوات للسيطرة علي الإنسان وليس من أجل إطلاق الإمكانات الكامنة في الإنسان, ومن ثم فإن ارهاصات المستقبل تتطلب إيجاد نوع من الفكر الذي يشرح المستقبل علي أساس نقد الحاضر والماضي ليس غير. ومن ذلك كانت انطلاقة إدجار موران نحو الوقوف علي تحديات القرن الحادي والعشرين خلال إحياء العديد من الاستفسارات وعلامات الاستفهام في ظل المكتسبات الكبري التي حققتها العلوم المعاصرة لاسيما الإنسانية التي تعمل علي التحقق من الجذور المادية والبيولوجية للانسان وكذلك تسعي للتعرف علي ذاتية الانسان كبشر, فهذه العلوم ذات ضرورة حيوية لبعث الثقافة الانسانية لأن رسالة الثقافة إنما تتمثل في تشجيع القابلية علي التشكيك بهدف التوصل الي المعقولية, بجانب القدرة علي طرح التساؤلات وتضمين المفاهيم إضافة إلي الاحساس بالقدرة علي التواجه مع أكبر التعقيدات. وقد حازت التحليلات علي درجة من العمق المتسق مع طابع القضية التي تعرف بتواصل المعارف العلمية والتي أنتجت في آلاف الصفحات وبأيدي فريقا من محترفي البحث عشاق العلم وسدنته أولئك الذين يخوضون محاولة رسم المستقبل بالتخطيط والبحث والدراسة وبلوغ نتائج علمية تطرح عليهم صورة المستقبل المتوقع والمأمول. ولعل بعضا من ذلك يثير غيرتنا العلمية والثقافية الفكرية ويدفعنا نحو أن نواجه أنفسنا بتساؤلات مفزعة تكون علي نحو: كم عدد الدراسات المستقبلية التي أنتجها العالم العربي منذ بدايات هذا القرن؟ وما هي قيمتها ووزنها المعرفي؟ وهل بالفعل تعنينا القضية المستقبلية كما تعني أبناء الطرف الآخر من الكرة الأرضية؟ وهل تكون تلك الدراسات علي درجة من الدقة والمنهجية بحيث تعلو أيضا درجة الثقة في نتائجها؟ ما أحوجنا بالفعل للإبحار في علوم المستقبليات إذ إن الوضعية المجتمعية للعالم العربي وعلي اختلاف مناحيها وتوجهاتها إنما تعد في حاجة ماسة للتغيير ثم النهوض والانطلاق فالذين يعايشون معني الحضارة يستشعرون نقصانا يحتم عليهم ضرورات وجودية, فكيف تغيب عنا عدوي ذلك الشعور التقدمي الدافع نحو تحقق الوجود الإنساني الذي يعد ضرورة الضرورات لكننا لا نوقن ذلك!!