لعل فكرة الشغف بالمستقبل التي تعلق بها الكتاب والفلاسفة والعلماء منذ القدم وخاضوا في تفصيلاتها وأبعادها وأعماقها قد كانت من الصعوبة بمكان, إذ لم يكن الحاضر يمكن أن ينبئ بوجود خوارق تفوق النمط الاعتيادي لحياة البشر. لكنها سرعان ما قد أصبحت هي الفكرة الحاكمة وبات التنبؤ بالمستقبل سهلا يسيرا بعد ما مثل الحاضر كتلة المستحيل التي توحدت فيها محاور الزمن وأصبح التنبؤ يعد من رفاهيات الفكر لدي ذلك العقل الذي لا يكف عن الطموح القائد نحو الفناء والذي جعل حركة العلم تمضي مسرعة لكن في الاتجاه المضاد الذي يخاصم ارتقاء الإنسان وتطوره, بمعني أنه إذا تفوقت التكنولوجيا علي العقل البشري وأحالت الإنسان إلي مسارات الجمود فإنها سوف تخلق مجتمعا من البلهاء كما أكد اينشتاين. ومن ذلك تتفجر التساؤلات النابعة من واقع الاستحالات المعاشة الدافعة نحو دروب عالم اللامعقول علي غرار: كيف يمكن التنبؤ الصادق بمستقبل تتغير فيه الآلية التكنولوجية لحظيا؟ وكيف تم استخدام وتوظيف تلك الآلية في الحاضر لتكون مؤشرا إيجابيا نحو مستقبل واعد؟ وهل حققت نوعا من الأمن والسلام الاجتماعي علي صعيد الكرة الأرضية أم كرست جذور الخوف والفزع والترقب؟ ولماذا كان التوظيف العسكري والسياسي للطوفان التكنولوجي والمعلوماتي هو المتصدر دائما؟ وانطلاقا هل سيمثل اطراد التقدم التكنولوجي صدمة مستقبلية؟ ولعل كل تلك التساؤلات لم تحبط الكاتب الانجليزي الشهير أدريان بيوي من محاولة التحليق في الأفق المستقبلي البعيد خلال أطروحته الخطرة الخمسمائة عام القادمة التي يري خلالها أن فترة الخمسة قرون التي يغطيها الكتاب ليست شديدة القصر فتصير تنبؤاتها غير مؤكدة ولا شديدة الطول فتكون عصية علي التخيل. ويتأسس الكتاب علي فكرة عامة تقول: كلما امتد الزمن الموضوع في الحسبان للتنبؤ بأحداثه, تزداد صحة تلك التنبؤات. كما تنطلق أيضا بعض أفكار الكتاب من مقولة أن التنبؤ بالمستقبل مؤداه أن الحاضر يبدو عاديا دوما, في ما يظهر المستقبل خياليا. والمفارقة أن الحاضر كان يوما ما مستقبلا بالنسبة إلي ماضي الأيام, وسيكون المستقبل هو حاضر أناس آخرين أيضا وسيعيشونه كشئ عادي مهما بدا خياليا في الوقت الراهن. وقد قسم بيري كتابه إلي قسمين. يتصل الأول بتاريخ تطور العلم. ويري فيه أن المكتشفات الماضية والراهنة تحفز ما يليها من ابتكارات, بما يصنع بعدا تطوريا لحركة الحياة ولتقدم العلوم في الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وغيرها. ويلامس أيضا مجموعة من القضايا في مجالات الطاقة والبيئة والسكان والمجاعات والكوارث وغيرها. ويتناول القسم الثاني مستقبل الفضاء. ويطرح فيه رؤي كتاب الخيال العلمي عن غزو الفضاء واختراقه, مستعرضا ما تحقق فعليا منها وما هو في طريقه إلي التحقق. ويلامس قضايا ذلك المجال مثل الشتاء الكوني وسفر النجوم أو الحرب الذرية والكيمياء الكونية واصطدام الكويكبات والمخلوقات المتقدمة والتقنيات الفلكية وغيرها. واستنادا إلي تلك المقاربة العلمية, يطرح كتاب الخمسمائة عام المقبلة مجموعة من التنبؤات مثل تخزين الشخصية الإنسانية علي أقراص الحاسوب لاسترجاعها بعد موت صاحبها, وظهور أجيال من الإنسان الآلي( الروبوت) الفائق الذكاء لتحل محل البشر وبناء سفن فضاء أسرع من الضوء, واستعمار القمر والمريخ بتحفيز من الحاجة إلي الطاقة الرخيصة, والاستعداد لمجئ عصر جليدي. لكن وفي كل الأحوال سيبقي المستقبل معبرا عن أزمة الإنسان المعاصر أكثر من كونه يمثل أملا فريدا في استحضار أطياف السعادة الغائبة بفعل التدافع والتصارع والتنافس المدمر, ذلك الذي حتم ان تعقد الأممالمتحدة مفاوضات رسمية هي الأولي من نوعها حول حظر استخدام الإنسان الآلي القاتل ووضع بروتوكولات لاستخدام الذكاء الصناعي في مجال التسلح. وإلا سوف نسهم جميعا في وجود مشروع كارثي يحول دون التدخل الإنساني فيما يتعلق بالقوة المميتة.