تمر العلاقات الأمريكية الكوبية في الوقت الحالي بأزمة تنذر بتدهور العلاقات بينهما إلي حد يهدد بعودة القطيعة بينهما من جديد, تلك القطيعة التي استمرت لأكثر من نصف قرن واقترنت بحصار اقتصادي أمريكي شامل علي الجزيرة الكوبية إثر خلافات تطورت إلي أعمال عسكرية خطيرة تصاعدت إلي مستوي العداء الكامل بين البلدين, ولم تعد العلاقات بينهما إلا منذ عامين فقط في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. الأزمة الجديدة تمثل منعطفا خطيرا يعيد إلي الأذهان أجواء أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت تتحول إلي حرب نووية بين قطبي العالم انطلاقا من الأراضي الكوبية, أو ما كان يطلق عليه في روسيا أزمة الكاريبي والتي كانت جزءا من الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولاياتالمتحدةالأمريكية عندما نشرت موسكو صواريخ نووية متوسطة المدي قادرة علي ضرب معظم الأراضي الأمريكية في كوبا ردا علي نشر أمريكا أكثر من مائة صاروخ يحمل رءوسا نووية في كل من بريطانيا وإيطاليا وتركيا كلها موجهة للاتحاد السوفييتي. وكان لدي كوبا في ذلك الوقت مبرراتها الكافية لقبول نشر الصواريخ السوفيتية فوق أراضيها, حيث حاولت الولاياتالمتحدة إسقاط النظام في الجمهورية الكوبية في أعقاب الثورة التي قادها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو وأخوه راؤول وأطاحت بالرئيس فولجينسيو باتيستا الذي كان يحظي بدعم أمريكي. إلا أن الأزمة الجديدة لا تستند إلي مبرر موضوعي أو أدلة إدانة واضحة يمكن بناء عليها اتخاذ قرار المقاطعة وفرض العقوبات الاقتصادية والحظر التجاري الذي تجيده الحكومة الأمريكية ليس مع كوبا وحدها, ولكن مع الكثير من دول العالم. هي أزمة مبنية علي افتراض يرقي لمرتبة الوهم أو التوهم, حيث تعتقد واشنطن أن كوبا شنت هجمات صوتية غامضة علي سفارتها في هافانا بتكنولوجيا لم تحدد معالمها تسببت في إصابة عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين والعاملين في السفارة بالصمم وأضرار جسيمة أخري, وعليه قررت الإدارة الأمريكية سحب نصف قوة سفارتها في كوبا, وقامت باستبعاد15 دبلوماسيا كوبيا من سفارة هافانا في واشنطن. وزير الخارجية الكوبي برونو رودريجيز وصف الأمر بالمزاعم الأمريكية, مؤكدا أنها تلاعب سياسي يهدف إلي تقويض العلاقات الثنائية بين البلدين. المسئولون الأمريكيون زعموا أن الهجمات الصوتية الغامضة تمت باستخدام أجهزة لم يحددوا مواصفاتها أثرت علي24 شخصا في السفارة بين نهاية2016 وأغسطس2017, وعليه سحبت واشنطن أكثر من نصف طاقمها الدبلوماسي من كوبا وأمرت بإبعاد15 دبلوماسيا كوبيا من أراضيها ما وصفته هافانا بالإجراءات غير المبررة. اللافت في الأزمة أن الإدارة الأمريكية لم توجه اتهاما محددا لكوبا, في الوقت الذي حمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هافانا مسئولية وقف الهجمات, مؤكدا امتلاكها وسائل ذلك, بينما انتقد المسئولون الكوبيون نظراءهم الأمريكيين واتهموهم بعدم التعاون بالكشف عن نتائج الشق الطبي في الموضوع. وتبقي أسرار الأزمة حكرا علي المسئولين الأمريكيين وحدهم ولغزا محيرا لكل المراقبين. فإما أن هناك أضرارا صحية جسيمة وقعت بالفعل لطاقم السفارة الأمريكية في هافانا, جراء وجود تكنولوجيا متقدمة جدا لدي كوبا لم يتوصل لمعرفة أسرارها علماء الولاياتالمتحدة مجتمعين, وهنا يتوجب علي واشنطن أن توجه اتهاما صريحا لكوبا وتطالبها مباشرة بعلاج ما تسببت في حدوثه لأعضاء طاقمها الدبلوماسي, وهو أمر مستبعد تماما, وإما أن شيئا مما تدعيه واشنطن لم يحدث وأن الأمر مجرد ذريعة مختلقة من جانبها لإثارة الجدل وقطع العلاقات مع كوبا تنفيذا لرغبة ترامب الذي يسعي لإلغاء كل منجزات أوباما بما فيها إعادة العلاقات مع هذا البلد. الكوبيون أثبتوا حسن نيتهم باستقبال محققي مكتب التحقيقات الفدرالي إف بي آي ثلاث مرات خلال العام الجاري, بينما أوقفت الولاياتالمتحدة منح التأشيرات للكوبيين من دون انتظار لنتائج التحقيقات, مع غياب كامل لأي أدلة تثبت الادعاءات الأمريكية, ما يشير إلي ضم كوبا إلي قائمة الدول المحظور دخول رعاياها إلي الأراضي الأمريكية, بالدفع بهذه الأسباب الواهية. وفي كوبا نفسها أثارت الأزمة حالة من الشك دفعت بالمسئولين إلي إجراء تحليلات وأخذ عينات من أشخاص يقيمون في محيط مقر السفارة الأمريكية, والتحقيق باللجوء للخبراء في فرضيات وجود سموم أو أمواج كهرومغناطيسية بالمنطقة أو.. حشرات تصدر أصواتا, ولم يتوصلوا لشيء ذي قيمة. ويبدو أنه مثلما كانت عودة العلاقات الدبلوماسية بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوكوبا مفاجأة للجميع وتمت بترتيبات سرية بين المسئولين في البلدين بعد أكثر من نصف قرن من القطيعة الكاملة, ترتب واشنطن وحدها هذه المرة مفاجأة أحدث منها للعالم بقطع علاقاتها مع جارتها مرة أخري بذرائع لا أساس لها, إن لم يكن في الأمر أسرار تتعلق بأنشطة تتعلق بالتجسس علي المصالح الأمريكية يمارسها عملاء كوبيون محترفون لا يمكن الكشف عنها, عجزت الولاياتالمتحدة عن ضبطهم ففضلت مبدأ السلامة علي مواصلة العلاقات مع وجود تهديدات لأمنها القومي, وهو ما لن تعلنه أبدا.