فمن الضروري إذن أن تكون هناك صناعات للسينما تنطلق من خلفيات ثقافية مختلفة تكسر الأحادية القطبية للسينما الأمريكية في العالم أيقظت أخبار المشاركة المصرية في مهرجان كان السينمائي مايو الماضي في نفسي تساؤلا قديما: هل يمكن أن نحلم بأن تكون هناك آراوود( أي صناعة سينمائية عربية ضخمة) بقوة هوليوود الأمريكية وبوليوود الهندية؟ وكان هذا التساؤل بل الأمل قد راودني عدة مرات في أثناء تدريسي في إحدي جامعات الولاياتالمتحدة, فقد اقتضي المنهج الذي كنت أدرسه أن أعرض أفلاما عربية ليست فقط مصرية) فعرضت مثلا الفيلم الكوميدي ابن حميدو فأثار اهتمام الطلاب إلي حد كبير إذ استوقفتهم صورة المرأة المصرية( كأم وكابنة وكبائعة وكممثلة.. إلخ) وقارنوها بالصور التقليدية غير الايجابية( في معظم الأحيان) التي يجدونها في إعلام بلادهم عن المرأة العربية. لكني أذكر أيضا تجربتي مع عرض فيلم صلاح الدين( إخراج يوسف شاهين) إذ طلبت من الطلاب أن يشاهدوه ويقارنوا بين مضمونه ومضمون فيلم مملكة السماء وهو فيلم أمريكي انتج في السنوات الأخيرة حول الموضوع نفسه( أي الحروب الصليبية وصلاح الدين), فكانت النتيجة مدهشة إذ كتب كثير من الطلاب هجوما لاذعا علي مضمون الرواية في فيلم يوسف شاهين قائلين إنه يخالف التاريخ الذي تعلموه. وهذا رأي إن تم توثيقه لأصبحت له قوة غير إن أيا من الطلاب آنذاك لم يعبأ بتوثيق رأيه فكانت كتابتهم محض رد فهل عاطفي حماسي, وتأكد لي ذلك عندما قالت لي طالبة وكانت من أكثر الطلاب جدية واجتهادا إنها مستاءة جدا من الطريقة التي صور بها الفيلم الجنود الفرنج أي مسيحيي أوروبا فسألتها حينئذ عن رأيها في تصوير الفيلم لشخصيات مثل عيسي العوام( أي مسيحيي الشرق), فلم أجد ردا. وفي الحقيقة لم أفسر موقف هؤلاء الطلاب علي أنه منبعث بالضرورة من حماسة دينية, بل كنت علي استعداد لتفهم عدم قبولهم للرواية العربية حول ذلك الحدث التاريخي أو تفنيدهم منطقيا لها, لكني لم أفهم أبدا مشاعر الاستياء الشديد ذي الطابع الحماسي التي انتابتهم بعد مشاهدة الفيلم. ثم توصلت إلي تفسير: إن كنت أنت الذي يقوم دائما بلا منازع بتصوير الآخرين وأنت من يفرض قوالبه الفكرية, فتحدد مسبقا الملامح النفسية والثقافية للآخرين, فإنه من الطبيعي أن تشعر بشيء من الصدمة عندما يقدم الآخرون علي رسم أي تصور لك. وكان هذا تماما ما حدث, فإن هؤلاء الطلبة ببساطة معتادون غالبا علي استهلاك أفلام تقدم رؤي أمريكية( عن التاريخ والثقافة.. الخ) باعتبار أن صناعة السينما في هوليوود هي الأكثر هيمنة عالميا. فمن الضروري إذن أن تكون هناك صناعات للسينما تنطلق من خلفيات ثقافية مختلفة تكسر الاحادية القطبية للسينما الأمريكية في العالم. ولقد نجحت السينما الهندية( بوليوود) في ذلك ونجاح بوليوود يعني فرض رؤية ثقافية( شرق آسيوية) مغايرة للرؤية( الغربية) الهوليودية المهيمنة. ومن هنا تبدو أهمية أن تزدهر صناعة السينما العربية عامة والمصرية خاصة( نظرا لتاريخ هذه الأخيرة العريق) وقد تكون مرحلة التغيير التي يمر بها العالم العربي خير أوان لذلك لكن علي التوازي مع العمل علي النهوض بالسينما العربية فإنه من الضروري أيضا أن نتدارس ما افرزته هذه السينما العربية حتي الآن ولا أعني بهذا دراسة المتخصصين في معهد السينما, بل أعني ضرورة انفتاح العلوم الانسانية والاجتماعية( في الجامعات) علي دمج دراسة الانتاج السينمائي من وجهة نظر تلك العلوم( أي تدارسها من الناحية الأدبية أو الاجتماعية أو السياسية إلخ). وهذه ليست بدعة فتقاطع وتكامل فروع العلوم كلها سمة أساسية في التعليم والبحث العلمي في الدول المتقدمة فهو ما يعرف بالINTERDISCIPLINARY الاعتماد علي مناهج علوم متعددة.