أيد الأكراد في كردستان العراق; دهوك وإربيل والسليمانية, والمناطق المتنازع عليها في محافظات أخري مثل كركوك وخانقين وسنجار وغيرها, حقهم في إقامة دولة مستقلة للأكراد العراقيين. ولم يكن الاستفتاء الذي جري في25 سبتمبر غير تحصيل حاصل, فالحلم القومي للأكراد بإقامة دولتهم المستقلة يراودهم منذ نهاية الحرب العالمية الأولي. وعلي الرغم من الانتكاسات التي تعرض لها المشروع القومي الكردي في العراق, فإنه لم يضعف ولم ينهر, وإنما حافظ في كل الأوقات تقريبا علي قوة دفع معقولة أبقت عليه حيا ومليئا بالحيوية. والحقيقة أن الاستفتاء يمنح السلطات الكردية قوة شرعية قانونية بإمكانهم الاستناد إليها للمطالبة بإقامة الدولة المستقلة, ومن ثم فإنه يمنح الحلم القومي الكردي دفعة جديدة في ظل ظروف ربما تختلف الآن عن ذي قبل, سواء بعد الحرب العالمية الأولي أو بعد الحرب الثانية. وهناك ثلاثة متغيرات جديدة من الضروري الإشارة إليها بسرعة في هذا السياق: الأول: أن الدولة القومية العربية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أو علي أساس تقسيم سايكس/بيكو عام1916 هي الآن في أضعف وأسوأ حالاتها. صحيح أن هناك من يريد إعادة بعثها وإعادة ضخ الدماء في شرايينها, لكن الأمر هنا يتجاوز حدود الرغبة, كما يتجاوز حدود أي محاولة لإعادة إقامة النظم القديمة, فمثل هذه المحاولات ستزيد الأمور تعقيدا, وستزيد سنوات المعاناة. الثاني: أن الأكراد حصلوا علي استقلال بقوة الأمر الواقع منذ نحو26 عاما تقريبا, فهم منذ العام1991 يحكمون أنفسهم ويتمتعون بمساعدات واسعة النطاق من الدول الكبري خصوصا من الولاياتالمتحدة وكندا والإتحاد الأوروبي. وخلال تلك الفترة التي تربو علي ربع القرن نجح الأكراد في إفراز قيادات علي مصاف رجال الدولة في كثير من المجالات, سواء من خلال إدارتهم الكردية أو من خلال الحكومة الاتحادية في العراق منذ سقوط صدام حسين. ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل إن طبقة جديدة من رجال الأعمال شقت طريقها بقوة إلي النطاق الاقتصادي الإقليمي( تجارة واستثمار وبناء ومقاولات وأعمال وساطة متنوعة) وهذه الطبقة الجديدة نجحت في إقامة علاقات مع الدول المجاورة ومع الشركات العاملة في إقليم كردستان وفي المنطقة, ومن المرجح أن تلعب دورا مهما في إقامة هياكل دولة مستقلة. الثالث: أن عشرات الشركات تقودها أنشطة شركات النفط العالمية العاملة في كردستان أصبحت تمثل قوة ضغط سياسي في بلدانها الأم دفاعا عن مصالحها في كردستان العراق, فشركات النفط التركية وشركات التصدير والاستيراد الإيرانية وشركات النفط الأمريكية والكندية والفرنسية والروسية والنرويجية التي تعمل علي تطوير استثماراتها في كردستان لن تقبل بتقويض مصالحها هناك. ومن ثم فإن مواقف الدول الكبري( بصرف النظر عما أعلنته هذه الدول ردا علي الاستفتاء) ترتبط مصالحها في المدي الطويل بقيام دولة كردية مستقلة. وتكشف معظم التصريحات الصادرة علي حكومات غربية مثل فرنساوالولاياتالمتحدة وألمانيا أن الخلاف مع مسعود البرزاني هو خلاف علي التوقيت وليس علي المبدأ. ومع ذلك فإن هذه المتغيرات الثلاثة الجديدة لا تزيل تماما المخاوف الراسخة لدي بعض الأطراف من قيام دولة كردية مستقلة. وأظن أنه بات من المعروف الآن علي نطاق واسع أن سوريا وإيران وتركيا تخشي قيام دولة كردية في كردستان لأن ذلك قد يمثل تهديدا لوحدتها القومية. وربما لا يدرك أصحاب هذه المخاوف أن العالم يتغير بسرعة لغير صالح الدولة القومية التقليدية الويستفالية. وسوف تلعب حقوق القوميات الصغيرة, كما يلعب القانون الدولي الإنساني والوحدات والمنظمات غير الحكومية أدوارا مهمة خلال السنوات والعقود القليلة المقبلة لإعادة تشكيل دور الدولة في ظاهرة العولمة. الذين يراهنون عن نهاية العولمة أو فشلها واهمون, فالعولمة ليست خيارا سياسيا واقتصاديا بقدر ما هي ظاهرة عميقة تعبر عن تقسيم جديد للعمل علي المستوي العالمي. وتبدو مصالح دول الإقليم المحيطة بكردستان العراق( العراق وإيران وسوريا وتركيا) وكأنها في حالة تصادم مع المشروع القومي التركي. وربما نقترب في الأسابيع المقبلة من شكل من أشكال التسوية التي تحقق معادلةwin-win لكل الأطراف. وربما يستغرق الوصول إلي الصيغة النهائية للمعادلة بعض الوقت, لكن الاتفاق علي المبدأ لن يطول. المشكلات الرئيسية الناتجة عن الاستفتاء تتعلق بنفط كركوك وإعادة رسم حدود إقليم كردستان والمسائل المتعلقة بنشاط وتسليح قوات حماية الشعب الكردية أو( البيشمركة). وتسوية القضايا المتعلقة بها ستستغرق وقتا بين حكومتي بغداد( الحكومة الاتحادية) وحكومة إربيل( حكومة إقليم كردستان). ولا أظن أن أيا من الطرفين في عجلة من أمره. وهذا السيناريو يستبعد وقوع صدام عسكري واسع النطاق, فالجميع يعرفون أن الرابح من مثل هذا الصدام هو تنظيم الدولة الإسلامية( داعش) ولا أحد غيره. ومن المرجح أن تشهد الأيام المقبلة تهدئة من طرفي الصراع إلي جانب تهدئة من القوي الإقليمية الرئيسية( علي الرغم من المناورات التركية والمناورات العراقية/الإيرانية علي حدود كردستان العراق). إن مصالح دول الجوار في استمرار وتنمية التجارة الإقليمية مع كردستان العراق( ما يترواح بين15 مليار دولار إلي25 مليار دولار بما في ذلك التجارة العابرة إلي العراق), كما أن مصالح شركات النفط والغاز العالمية ستعارض بقوة تهديد استثمارات بمليارات الدولارات ضختها شركات أمريكية وروسية وفرنسية ونرويجية وتركية في كردستان العراق. هناك مسائل دستورية( مثل تطبيع الأوضاع في كركوك) ومسائل مالية( مثل حصيلة صادرات النفط وتقسيمها حسب نسبة يتفق عليها) ومسائل إدارية مثل رسم الحدود بين كردستان وبقية العراق سوف تفتح ملفاتها من جديد ويعاد بحثها بجدية تتفوق عما كان عليه الوضع قبل الاستفتاء.