مثلما تسري الحمي في جسد الإنسان فتسبب ارتفاعا في درجة حرارته إلي حد يهدد سلامته ويعرضه للموت في حال عدم تناول العلاج في التوقيت المناسب, تنتاب الجسد الأوروبي من وقت لآخر حمي الرغبة في الانفصال في إقليم من أقاليمه, وتختلف شدة الحرارة من مجرد إعلان الرغبة في إجراء استفتاء لتخيير السكان بين البقاء في حضن الدولة الأم كإجراء سياسي ديمقراطي سلمي إلي إنشاء منظمات مسلحة تدخل في مواجهات عسكرية عنيفة مع السلطات الحاكمة بشكل مباشر ومعلن, يسقط خلالها عشرات وربما مئات القتلي والجرحي, ثم تهدأ الحمي قليلا وتعود الأمور لسابق عهدها بعد قمع الحركة الانفصالية أو إيجاد تسوية سلمية معها. ورغم اتفاق أغلب الشعوب الأوروبية علي فكرة الاتحاد فيما بينها بكل ما تعنيه الكلمة من إلغاء الحواجز الجمركية والحدود السياسية وتوحيد للعملة وتأشيرات الدخول والتوافق لحل المشكلات الاقتصادية لكل الأعضاء بوصفهم أعضاء في كيان سياسي واقتصادي واحد من أجل مواجهة التكتلات الدولية الكبري, ما أسفر عن إنشاء الاتحاد الأوروبي عام1992 أي منذ ربع قرن بالضبط وفقا لاتفاقية ماستريخت, الذي يضم في عضويته28 دولة آخرها كرواتيا, إلا أن حمي الانفصال بدأت تعرف طريقها إلي هذا الكيان من جديد, وعادت إليه أعراض ارتفاع درجات حرارة في إقليم كتالونيا الإسباني الذي أعلن في استفتاء عام رغبته الصريحة في الانفصال عن إسبانيا, ما جدد الصداع للحكومة المركزية في مدريد من مخاوف انفصال هذا الإقليم الغني ودفعها لاتخاذ إجراءات قمعية ضد الانفصاليين الكتالونيين شملت حملة اعتقالات واسعة لمسئولين ومتظاهرين, واشتباكات عنيفة بين سكان الإقليم والشرطة الإسبانية تسببت في إصابة العشرات بسبب العنف المفرط من جانب الشرطة في التعامل مع سكان الإقليم خلال محاولات منعهم من الإدلاء بأصواتهم والحيلولة بينهم وبين صناديق الاقتراع, والحالة مرشحة لمزيد من السخونة في ضوء إعلان رئيس الإقليم عزمه إعلان استقلال كتالونيا من طرف واحد غدا الإثنين, رغم تهديدات الحكومة الإسبانية بالتصعيد من جانبها, وبعد دخول العاهل الإسباني علي خط الأزمة وإعلانه رفضه لرغبة الكتالونيين في الاستقلال, في الوقت الذي يسعي رئيس الإقليم لوساطة أوروبية من أجل إنهاء الأزمة. مع ذلك.. لا تزال الأزمة في بداياتها, مع احتمال ارتفاع درجة حرارتها بشكل غير محسوب حيث لم تتحول بعد إلي مواجهات عسكرية بين الطرفين كتلك التي شهدتها المملكة الإسبانية علي مدار40 عاما من المواجهات المسلحة بين السلطات في مدريد والانفصاليين في إقليم الباسك الواقع شمال إسبانيا, وقادتها حركة هيري باتاسونا التي أعلنت في2013 حل نفسها, بعد جهود ومفاوضات مطولة بين الجانبين. وربما تشكل حرب الإبادة العرقية والدينية الشرسة التي شنها الصرب والكروات في الاتحاد اليوغسلافي السابق علي مسلمي البوسنة والهرسك منذ سنوات, التي انتهت بتقسيم يوغوسلافيا إلي ثلاث دول هي كرواتيا وصربيا والبوسنة, النموذج الأسوأ والأكثر دموية في أوروبا للنزعات الانفصالية عبر سلسلة طويلة من المجازر البشعة والقتل الجماعي التي استهدفت المسلمين وحدهم تحت سمع وبصر المجتمع الأوروبي والدولي الذي لم يحرك ساكنا إلا بعد تجاوز أعداد الضحايا لعشرات الآلاف, رغم اندفاع هذه الدول نحو الوحدة الأوروبية فيما بعد. المملكة المتحدة أيضا التي سعت للانفصال عن الاتحاد الأوروبي مفضلة الاستقلال بمواردها الاقتصادية علي الاندماج الذي لم يحقق لها أي مزايا, تواجه احتمالات مطالبة كل من أيرلندا واسكتلندا بالاستقلال عنها, ويخيم عليها شبح الانفصال من وقت لآخر, وسبق أن كوتها لعقود المواجهات المسلحة مع الجيش الجمهوري الأيرلندي الراغب في الانفصال لأسباب معقدة لها وجاهتها. إيطاليا هي الأخري تنطوي علي مثل هذه النزعات الانفصالية حيث طالتها الحمي عندما طالب نواب حزب رابطة الشمال بإقليم فينيتو الصناعي الغني شمال البلاد بحق تقرير المصير وإعلان دولة بادانيا لأول مرة عام1974, وتجدد الموضوع مرة أخري عام1991 إما بإجراء الاستفتاء أو منح الإقليم الذي يضم14 مقاطعة من بينها لومبارديا وفينيتو وبيمونته وتوسكاني حكما ذاتيا, واتهموا الحكومة الإيطالية بالديكتاتورية, وأعلنوا أن فكرة إجراء استفتاء لتقرير مصير الإقليم تعزز مبادئ الديمقراطية في هذا البلد الأوروبي. ولم تنج ألمانيا قاطرة الاتحاد الأوروبي وصاحبة أقوي اقتصاد في القارة العجوز من مخاوف سعي إقليم بافاريا للمطالبة بالانفصال, حيث يفخر سكان الإقليم الذي يشكل خمس مساحة ألمانيا بانتمائهم لبافاريا قبل إحساسهم بالفخر لكونهم مواطنين ألمانا. بلجيكا أيضا تعاني من الأعراض نفسها, حيث يطالب سكان جزر الفيلاندر الواقعة في بحر الشمال إما بالاستقلال عن المملكة أو الانضمام لهولندا التي يتحدثون لغتها, والمشكلة ذاتها تواجهها فرنسا من جانب سكان جزيرة كورسيكا بالبحر المتوسط, وإقليم سافوي الذي ضمته فرنسا إليها بموجب اتفاق عقده نابلوين الثالث عام.1860 ويغلب علي النزعات الانفصالية الأوروبية أنها تأتي من أقاليم متميزة اقتصاديا وصناعيا, أو لأسباب تتعلق بالتكوين الثقافي واللغوي والمذهبي المختلف عن الأغلبية, أو بسبب وطأة الإحساس بالتهميش, ما يشكل خطرا كبيرا علي وحدة الاتحاد الأوروبي