اعتياد سياسي وطقوس إستراتيجية تمارسها الولاياتالمتحدة, ترصد خلالها ما يتسني من رؤية خاصة حول شئون العالم- في ظرفياتها المعاصرة- بما تقدمه من تقارير تغيب عنها صدقية الأبوة السياسية نظرا لما تنطوي عليه من حقائق مشوهة وإحصاءات مغلوطة بل ربما قضايا غير ذات أولوية. ولقد مثل تقرير الحريات الدينية الصادر عن الخارجية الأمريكية نموذجا أصيلا لبعض ذلك, إذ طرح انتقاداته اللاذعة لجرائم الإبادة التي يمارسها التنظيم الأخرق المسمي داعش في كل من سورياوالعراق وليبيا, وهذا يعد اعترافا صارخا بعجز الولاياتالمتحدة عن القضاء عليه باعتبارها دولة تقاوم الارهاب وليست دولة راعية له تدعمه وتموله وتخطط له بحرفية عليا متجاهلة دورالمنظر الأمريكي الكبير مايكل فيجرز في إشاعة فكرة ذلك التنظيم الشيطاني ومعرضة عما سجلته هيلاري كلينتون في مذاكرتها المعنونة...( خيارات صعبة) من أن الإدارة الأمريكية قد قامت بتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بالاتفاق مع التنظيم الأخطبوطي الإخواني لتقسيم الشرق الأوسط. كما يشير التقرير إلي أن أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم يواجهون أعمالا عدائية تحد وتقيد حريتهم الدينية, وهو ما يعد سببا محوريا في شيوع ظاهرة الاضطهاد الديني والتعصب الطائفي, وعلي ذلك هل كانت أمريكا استثناء من ذلك أم كانت وراء دعم الجماعات والفرق الدينية لإشعال فتيل الحروب الطائفية وتغذية النزعات الانفصالية والتحريض ضد أنظمة الحكم باعتبارها أنظمة منشقة علي الداخل. وهل برأت أمريكا من الآفة المجتمعية الكبري أو معضلة العنصرية السياسية وإرساء فلسفة التعصب التي تعد دستورا أمريكيا خالصا؟ وكيف أصبحت عولمة الإرهاب تتويجا لعولمات كثيرة جري تعجيل وتيرتها منذ ربع قرن حتي إن الطوفان الإرهابي قد طوق قارات ودولا وأصبح يمثل أخطر ظاهرة تعايشها الإنسانية في لحظاتها المعاصرة؟. كما ندد التقرير بسياسات التمييز- ضد المسلمين- المجتاحة دول أوروبا معربا عن مزيد من القلق إزاء ذلك الخطاب المعادي لهم من جانب كافة القيادات السياسية متجاهلا للموقف الأمريكي الرافض لبقاء المسلمين في تلك البقعة المقدسة التي تحكم العالم.. يأتي ذلك تأسيسا علي ان التقريرإنما يستلهم منطلقاته الفكرية من حذافير شعار عنصري مقيت وهو إني أتهم وكذلك يساير مبدأ لست ولن أكون مطلقا في دائرة إتهام مهما أقل أو أفعل!! لكن من كان وراء شيوع عملية الاستهواء السياسي لأوروبا حتي تكتمل كيمياء عناصر الخطاب المعادي للإسلام كعقيدة وللمسلمين كبشر وللعالم الإسلامي ككتلة رجعية. ومن منطلق اعتدالية السياق يشيد التقرير بالدور التنويري للقيادة المصرية في ضرورة الاحتشاد الثقافي والعلمي تجديدا للخطاب الديني في مواجهة الفكر المتطرف, وهذا في ذاته إنما يمثل ازدواجية فاضحة للذات الأمريكية المتوارية خجلا من رقابة الضمير الدولي الذي سجل وقائع وأحداث وتساؤلات تردع لها تلك الذات ومنها: من الذي زكي وجود هذا الفكر؟ من الذي دعم التنظيم الإخواني المحتضن لهذا الفكر؟ من الذي سعي لنصرة الخيار الأصولي علي الخيار الديمقراطي لتظل مصر أسيرة توجهات ديماجوجية تدفع بها نحو عدمية المستقبل؟ من الذي تجاهل فكرة أن تعايش العقلانية والدين هما الضمان الفعلي لشيوع مناخات الحرية والديمقراطية. الشامل وطبقا للمسح في التقرير كان لابد من استدعاء المارد الصيني ليدخل بانوراما النقد والتشريح والتعريض المباشر وغير المباشر بالنظام... ذلك الذي يعذب ويعتقل ويسجن ملايين الأشخاص لا لسبب إلا ممارسة معتقداتهم الدينية, لكنه لم يكشف لنا عما يضير النظام من تلك الممارسات العقائدية حتي تقوم بأفعال فجة كتلك, فالأنظمة وبصفة عامة قد اعتادت سيادة حالة السلم العام ما دام لا مساس بسلطاتها أو تنازع علي وجودها, فهي لا تحول بين البشر وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بينها وبين أبدية سيادتها. إن تقرير الحريات الدينية كان ينقصه بالفعل وجود ذلك الرسم الحائطي في جيبور بالهند ذلك الرسم الذي يعد أمثل نموذج للتعاطف الإنساني والتجاوز العقائدي بين مسيحي وهندوسي وياني ومسلم وسيخي يصلون معا!! ولعل ذلك هو ما يعكس تناقضية مضمون التقرير, ذلك بجانب تجاهل العديد من الأرقام والنسب والمؤشرات المشيرة في جوهرها إلي مدي التسامح الديني بين أقليات وعرقيات من شعب واحد بل بين شعوب عدة في دول جوار وغيرها. إن موقف أمريكا وبصفة عامة من الأديان إنما هو موقف سطحي هامشي لا يعني في مضمونه قليلا أو كثيرا مما يستوجب الوقوف والإطالة, وإنما يأتي الحديث عن الحريات الدينية المقموعة تتويجا للحظات الاحتضار السياسي التي تخفت فيها الأنفاس ويتبدي الكيان متشدقا بأوهام البقاء!!