كان يداعبني من بين ثنايا سحاب شاهق البياض, يتهرب من نظراتي فيختفي لثوان معدودة, وعندما أبحث عنه يظهر من جديد ليملأني دفئا وسعادة. يراقصني فوق سماء صبوحة كالنهر العذب, صافية كينبوع الحياة المتدفق حيوية وشبابا. تراودني الذكريات الحلوة كالشهد والمرة كالعلقم, فيقترب مني ليحنو علي وهو يتبسم في وجهي. يسطع نوره فلا تقوي عيناي علي النظر إليه, فيذيب بلمسة سحرية كل ماتبقي من آلام الحياة. إنتي حتفضلي مبحلقة في قرص الشمس ده كتير؟, داحنا في نيس يابنتي, نيييييس! سحر..رشي حنان بشوية مية من البحر يمكن تنزل من السما وتتواضع وتقعد معانا علي الريفيرا.. قلت لك ميت مرة اسمها الكوت دازور.. آدي المية فوق دماغك إنتي علشان تحفظي بقي!.. وتعالت الضحكات وتسارعت الصديقات للهو البريء والسباق بلا هدف والضحك بلا سبب. وتابعتهن بنظراتي وأنا أبتسم مثلهن للحياة الجميلة, فرأيت الشاطيء الذي يرعاه قرص شمسي الوسيم بعيون جديدة. سبحان مبدع السماوات والأرض. مياه زرقاء رقراقة, سماء صافية باسمة, وجوه ضاحكة, ألوان البشرة والملبس متناغمة, جنسيات متعددة, لغات غير معدودة, أديان وعقائد وطوائف وملل ومذاهب لا حصر لها... يلقي هؤلاء المصطافون بأنفسهم في وقت واحد في بحر واحد في مكان واحد, دون أن يخشي أحد منهم أن تذوب حضارته أو ثقافته أو عقيدته في الأخري, فيخرج من المياه عاريا بلا ماض تراثي أو هوية ذاتية أو شخصية قومية. ياليت إرهابي نيس الشهير, الذي دهس الأطفال الأبرياء وهرس المسنين تحت عجلات شاحنته الدامية, يري هذا التلاحم الإنساني علي الممشي الشهير بروموناد دي زنجليه, وبحر نيس العتيد, وسماء الكوت دازور الغاضبة, وأشجار النخيل الباكية التي لفظت القاتل شكلا وموضوعا. وجال بخاطري أيضا صورة عروس البحر المتوسط الخلابة التي كانت, في زمن ليس بالبعيد فاتنة الموانيء والبحار. كنت أعمل وقتها ملحقا ثقافيا بالسفارة المصرية بباريس, وكان أبي ومثلي الأعلي وناصحي الأمين اللواء عبد السلام المحجوب يشغل منصب محافظ الإسكندرية الجميلة. أنامله الساحرة جعلت من لؤلؤة المتوسط توأما لمدينة نيس في الجمال والنظافة والنظام بل وفي رقي سلوكيات السكان والمصطافين والزائرين. وقد ساعد ذلك التشابه, آنذاك, علي توقيع العديد من بروتوكولات التعاون المشتركة بل وإتفاقيات التوأمة ثقافيا وأكاديميا ومدنيا بين الضفتين. وحيث إنني لست من أنصار البكاء علي الأطلال, فما الأطلال إلا جدران خاوية, ولا علي اللبن المسكوب, فما هو إلا إكسير فسد مذاقه فلفظه الداني والقاصي, لذا قررت أن أبدأ مع صديقاتي ورفيقات سفرياتي رحلة ساحل الذهب. بدأنا أولي خطواتنا في عهد اليونانيين عام350 قبل الميلاد, ثم إنتقلنا إلي أرض الريفيرا الإيطالية-الفرنسية التي تظللت في عام1860 بعلم فرنسا المتعدد الألوان مثل زائريها من عاشقي الكوت دور أي ساحل الذهب الذي أصبح فيما بعد الكوت دازور نسبة إلي مياه البحر الزرقاء. بدأنا بالقصر الأسطوري الخاص بأسرةفيمنتيل لاسكاريس الذي شيد, تحديدا فيبداية النصف الأولمن القرن السابع عشر, كشاهد شامخ علي الطرازالباروكي والأحداث والآلات الموسيقية واللوحات الفنية الفرنسية المختلفة. ثم قادتنا أقدامنا إلي الكاتدرائية الروسية الأرثوذكسية,التي تتحدث جدرانها المعمارية المتميزة عن دعم إمبراطور روسيانيقولا الثاني في بداية القرن العشرين للجالية الروسية التي تتزايد يوما بعد يوم بمدينة نيس الفرنسية. ثم انتقلنا إلي المنزل المتواضع ثم المتحف الكبير الذي يضم مقتنياتالرسامالفرنسيهنري ماتيس الذي فارق الحياة في عام1954 مخلفا بين ضلوع محبوبته ذكري رائد المدرسة الوحشية في الفن التشكيلي. ثم عبرنا الزمن والشوارع لنمر علي متحف مارك شاجال الرسامروسيالأصل,الفرنسيالجنسية, الذي أعاد اكتشاف الاستخدام الحر والنابض بالحياة للألوان المتجاورة مع أضدادها علي اللوحات والزجاج والخزف. تقليد حديث لرسم رموز وأشكال منحنية ومتداخلة تبناه الفنانون المعاصرون له من أمثال بيكاسو وغيره. حرام عليكي ياحنان.. رجلنا ورمت... فاضل إيه ؟.. متحفالفن الآسيوي أحدث المتاحف يجمع بين الماضي والحاضر وصممه المعماري اليابانيكنزو تانجو, وميدان جاريبالدي, والماسينا, ومنتزه فونيكس, وحدائق انجيليس, وسوق زهرة كور ساليا.. وبعدين نطلع علي مدينة كان.. بصي بقي ياحنان.. لو مدينة كان حلوة كده زي نيس ومونت كارلو وأنتيب ومونتون وسان تروبيه اللي زرناهم.. يبقي بلاش.. خلينا نروح ونعيش في أيامنا الحلوة.. أيام زمان.. لما كان.. ياما كان..