أقام الله عز وجل بناء ديننا الإسلامي الحنيف علي خمسة أركان تعد أساسا متينا لعبودية المؤمن لربه وطاعته للرسول صلي الله عليه وسلم ويعتبر الحج أحد هذه الأركان الخمسة التي لا يستقيم التزام المسلم بدينه إلا بكمالها, فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم:, بني الإسلام علي خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وحج البيت, وصوم رمضان] رواه الإمام البخاري مسلم. والحج في الشرع يعني قصد مكةالمكرمة لأداء الطواف والسعي والوقوف بعرفة, وما يتبع ذلك من مناسك يؤديها المسلم البالغ العاقل, ولو مرة واحدة في العمر, ومن تيسير الله عز وجل علي عباده أن فرض حج بيته الحرام علي المستطيع, حيث قال عز من قائل:, ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين]( آل عمران:97). ويقول الدكتور عبد الله أبو الفتح بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر بالقاهرة إن الوقوف بعرفات هو ركن الحج الأعظم لقوله صلي الله عليه وسلم: الحج عرفه فمن أدرك عرفه فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج, وبهذا يكون الوقوف بعرفات هو أهم أركان الحج بحيث لا يتم الحج إلا بذلك الوقوف في ذلك المكان المخصوص في ذلك اليوم المعلوم, ولعل من الأسباب التي جعلت الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم يقول: الحج عرفة ذلكم الفضل العظيم والجزاء الجليل الذي اختص الله عز وجل به يوم عرفة وأهل الموقف, ففي الحديث الشريف يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:, ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالي إلي السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء يقول: انظروا عبادي جاءوني شعثا غبرا ضاحين, جاءوني من كل فج عميق, يرجون رحمتي, ولم يروا عذابي, فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال وقف النبي صلي الله عليه وسلم بعرفات, وقد كادت الشمس أن تغيب فقال:, يا بلال أنصت لي الناس], فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلي الله عليه وسلم فأنصت الناس, فقال عليه الصلاة والسلام:, يا معشر الناس أتاني جبريل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام, وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات], فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله هذه لنا خاصة؟ قال: هذه لكم ولمن أتي من بعدكم إلي يوم القيامة, فقال عمر رضي الله عنه كثر خير الله وطاب. ويضيف د. أبو الفتح أن عرفات موضع لا مثيل له علي وجه الأرض كما أن يومه وقت لا يساويه في الشرف غيره من أيام الزمان. ولعل من أسباب تفضيله عن غيره من الأيام أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة, ففي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين, آية في كتابكم تقرأونها, لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا, قال أي آية؟ قال:, اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا], المائدة:3] قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه علي النبي صلي الله عليه وسلم, وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. ولهذا كله ولغيره ينبغي لمن حضر عرفة من الحجاج أن يشغل وقته بكثر الدعاء بالمغفرة والعتق من النار, لأن ذلكم الموقف تتنزل فيه الرحمات وتقبل الدعوات, ولهذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:, خير الدعاء دعاء يوم عرفة, وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو علي كل شيء قدير]. ويقول الدكتور نبيل عجيب من علماء الأوقاف إن المراد من العبادة بمعناها العام الخضوع الكلي والانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختيار يصدر من المكلف بإرادته واختياره سواء كان هذا العمل باطنيا كالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من أجل التواصل به إلي تحصيل الإيمان الراسخ بوجود الله, أم كان عملا ظاهريا وموقفا خارجيا منطلقا من ذلك الإيمان من أجل أن يتوصل الانسان بهذه العبادة بكل شقيها الباطني والظاهري إلي ما أراد الله سبحانه له أن يصل إليه ويحصل عليه من السعادة في الدنيا والآخرة. فمهما تكن الضغوطات أو الإغراءات المؤدية بطبيعتها إلي التحلل من نظام العبودية حيث إنها محتاجة إلي قوة إيمانية وبطولة روحية تساعد المؤمن علي الثبات في ساحة الجهاد الأكبر لذلك; شرعت العبادات الخاصة المعهودة بكيفيتها المرسومة. والفوائد المترتبة علي فريضة الحج المقدسة كثيرة ولكن أهمها وأبرزها وهو الزهد في كل ما يبعد الانسان عن رحمة الله سبحانه ويشغله عن الاهتمام بما ينفعه في دنياه وآخرته من الواجبات والمستحبات وعن التجمل بما يرفعه من الفضائل والكمالات. والوقوف بعرفة أعظم أركان الحج لأنه إذا فات وقته دون وقوف فقد فات علي الشخص الحج في ذلك العام, بخلاف غيره من الأركان فيمكن تداركها. فقد ثبت في سنن الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم بعرفة فسألوه, فأمر مناديا فنادي الحج عرفة, من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. وقد قيل عن سبب تسمية عرفة بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه, وقيل لأن جبريل عليه السلام طاف بإبراهيم فكان يريه المشاهد فيقول له: أعرفت أعرفت؟ فيقول ابراهيم عرفت عرفت. وقيل لأن آدم عليه السلام لما أهبط من الجنة هو وحواء التقيا في ذلك المكان فعرفها وعرفته. وأضاف الدكتور نبيل عجيب أن المؤمن انتصر علي الشيطان بدليل هذا المشهد العظيم للموحدين, وسبحان الله جعل الله لحظة الانتصار في نفس المكان الذي التقي فيه آدم وحواء جبل عرفات وجعل الوقوف به هو الركن الأعظم في أكمل رسالة لكونها الخاتمة والقائمة ليوم الدين وفي إشارة لا تخفي في مدلولها, كما أنه لم يشرع للحجيج صيام يوم عرفة لأن الصيام فيه حرمان ونحن في لحظة انتصار علي الشيطان الذي حرم آدم وحواء الجنة, فأنتم لن تحرموا الطعام بل وتقووا به علي الذكر والحمد والدعاء لتفوزوا بالجنة والرضوان ليعود آدم وتسكن ذريته الجنة لكنها ليست كتلك التي طرد منها بل أعظم لأنها جنة الخلد والنعيم المقيم. كما أن مشهد عرفة هو أقرب مشهد لأرض المحشر حيث يتدافع الناس إلي أرض عرفات ولباسهم لباس أكفان وعيونهم شاخصة بالميزان وقلوبهم معلقة بعفو ومغفرة الرحمن.