كان الناس علي عهد رسول الله يستفتونه في أمور دينهم; فيفتيهم بما أنزل الله عليه من الوحي, أو يسن لهم سنة فيما لم يرد فيه قرآن; فيجب عليهم اتباعها بنص القرآن الكريم: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا, الحشر:7]. وكان جملة من نبهاء الصحابة رضوان الله عليهم يحفظون فتاواه ويتفقهون به; مع حصول أدوات الفهم عندهم بالفطرة, لرجاحة عقولهم, وشهودهم التنزيل, وإحاطتهم بمقاصد الشرع; فوجدوا أنفسهم بعد وفاته أمام مسائل كثيرة لم يرد فيها نص صريح من الكتاب أو السنة, فدخلوا باب الاجتهاد بالرأي لمعرفة الحكم الشرعي فيما جد من القضايا, سائرين في ذلك علي منهج رصين, وقاعدة دقيقة, يهتدون بها في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية. ولم يكن المنهج الذي سلكه المجتهدون من الصحابة والتابعين اختراعا فكريا أبدعه العقل من لا شيء, بل هو مجموعة من القوانين الفطرية التي تهيمن علي سير العقل البشري ويتحاكم إليها لبداهتها; لأنه من الحقائق الثابتة التي تسلم لها العقول وتنقاد لها الفطرة السليمة عن شوائب الأهواء دون عناء أو جهد. ومع ظهور الأهواء, وتفرق الأمة شيعا وأحزابا, كل حزب بما لديهم فرحون, اتخذ كل جماعة لأنفسهم مرجعية خاصة, هدفها التبرير وليس التحرير, والاستناد وليس الاعتماد, فبدأ الشذوذ الفقهي يظهر في الأمة, وصار لمتفيقهة العصر ولع غريب بتبني الآراء الفقهية المهجورة, والعمل علي إحيائها بدأ الشذوذ الفقهي يظهر في الأمة متسترا تحت دعاوي التيسير, وتحقيق المصلحة, ورعاية المقاصد الكلية للشريعة, واستطاع أن يحوز بذلك علي إعجاب النخبة المثقفة, وغيرهم من الراغبين في التحلل من قيود التكليف, وانضباط الشرع, متناسين أن للشذوذ الفقهي وجها آخر, يتجه في الانحراف ناحية أقصي اليمين, كما اتجه وجهه الأول ناحية أقصي الشمال. لقد استغل أصحاب الفكر الإرهابي هذا الأمر لصالحهم بمنتهي الحرفية والمهارة, إذ خيل هذا التكاثر والاختلاف بين المرجعيات إلي قياداتهم الفكرية أن من حقهم أيضا أن تكون لهم مرجعيتهم الخاصة بهم, والتي تبرر أعمالهم التي نراها جرائم ترتكب في حق الإسلام والإنسانية, ما دام لكل فئة أو جماعة من المسلمين أن تتخذ لنفسها مرجعية خاصة بها. وإذا كان في رجال المرجعيات الدينية من يذهب في اجتهاداته الفقهية المزعومة إلي مخالفة جمهور الفقهاء قديما وحديثا في مسائل كثيرة, مبررا ذلك بالمصلحة التي يراها هو وحده وما المانع أن تعتبر شذوذات داعش في تفسير آيات القتال وأحاديث الجهاد اجتهادا مبرورا مشروعا, طالما نعتبر شذوذات الهلالي, والقرضاوي, اجتهادا مبرورا مشروعا, بل وربما تجديدا, إذ ما الفارق بين شذوذ وشذوذ؟ ولماذا تكون شذوذات القول بإباحة الربا, وشرب الخمر, وصحة بقاء المرأة المسلمة في عصمة الرجل الكافر, وإنكار حد الرجم مبررة, ثم لا تكون شذوذات القول بمشروعية قتل العصاة, والفسقة الذين ينشرون الإباحية الأخلاقية في ديار المسلمين, مبررة هي الأخري؟! جملة القول إننا بحاجة ماسة إن أردنا القضاء علي هذه الجرائم السوداء التي ترتكب باسم الإسلام أن نقضي علي الشذوذ الفقهي بكل أشكاله, بأن نجمع مرجعياتنا الفقهية الرسمية في مرجعية واحدة, وأن تكون هي وحدها المنوطة بإصدار الفتاوي الشرعية المنضبطة بمناهج البحث الفقهية المعتمدة.