استكمالا لحديث الامبراطوريات القادمة ومستقبل العالم فقد ثارت هناك العديد من الشكوك والهواجس لدي بعض المفكرين الأمريكيين أنفسهم إذ كشفوا عن خواء هذه الوضعية استنادا إلي أن القوة العالمية للولايات المتحدة رغم حجمها المؤثر إنما تعتمد علي أسس أضعف مما هو مفترض وشائع ورغم أنها اكتسبا بالفعل حجما امبراطوريا إلا أن الأمريكان أنفسهم يفتقرون إلي الذهنية الإمبراطورية وأن التهديد للإمبراطورية الأمريكية لن يأتي من إمبراطوريات منافسة في الغرب أو الشرق بل يأتي من فراغ القوة في الداخل أو غياب إرادة القوة الذاتية. وفي اتجاه هذه الرؤية أيضا رصد وحلل وناقش ارثرهيرمان بفكر موسوعي معمق طبيعة الاضمحلال في التاريخ الغربي مقدما نوعا من المقابلة الفلسفية بين الانتصارات والإنجازات التقنية والتشوهات التي تعاني منها الإنسانية منتهيا إلي سيادة الإتجاهات التشاؤمية التي باتت مكونا من مكونات الحياة المعاصرة ومنتهيا إلي فكرة تآكل الحضارة الغربية من داخلها علي صعيد نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وإذا كانت الأمة الأمريكية هي عرض من عوارض التاريخ وليست من ثوابته, وإذا كانت الحضارة هي وليدة المبادئ والقيم, وإذا كانت فلسفة التاريخ تطرح فكرة أن بطء المبدأ في سريانه وتحوراته إنما هو السبب الأساسي في بقاء الحضارة, من ثم فرؤيتي أن استمرارية الحضارة وتألقها إنما هي رهن بوجود المبدأ ونسبية ثباته, إذ أن منظومة المبادئ إنما تعد من أهم عوامل وركائز الحضارات, وليس الخطر علي تلك الحضارات هو ممارسة حقوقها في التنقل والتدرج من مبدأ لآخر, إنما يتمثل الخطر الحقيقي في اعتناق مبادئ جديدة سرعان ما تتحول إلي عقيدة راسخة لاسيما وهي ذات طابع سلبي نفعي. والمعروف والثابت أن درجة الاعتقاد وقوته لا تسحقها إلا درجة اعتقاد مماثلة أو فائقة. وهنا يتمحور مأزق الإمبراطورية الأمريكية في بلوغها أقصي مدي في اعتناق المبادئ السلبية, بينما هي أيضا خارج دائرة الفكر بالنسبة للتمسك بالمبادئ والمعتقدات الإيجابية, وعلي ذلك أكد ديجول قائلا: إنني أستطيع أن أفهم انجلترا والصين لكني لا أستطيع أن أفهم أمريكا لأنه ليس لها مفاتيح تمكن من ذلك!! من ثم فإننا نتساءل: هل استطاعت الإمبراطورية التواجه مع التحديات العالمية الكبري بما يدعم تقلص مشكلة الفقر والغذاء لدي الدول المعدمة حتي توجد مساحة من الاتساق الإنساني بين الدول؟ وهل استطاعت الإمبراطورية الأمريكية احتضان الدول الضعيفة تحقيقا لمعني الأبوة الحضارية بدلا من أن تصبح شبحا مرعبا تخشي أنيابه؟ ماذا اكتسبت الامبراطورية الأمريكية وهي حديثة العهد بالحضارة من دولة كمصر ظلت هي محور التاريخ العالمي نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة عام من التاريخ الحضاري للعالم البالغ نحو خمسة آلاف عام وهو ما يعني قيامها بدور رئيسي محوري في بناء الحضارة العالمية وبنسبة ما يزيد علي نحو سبعين بالمائة من تلك الفترة؟؟ ما هو حجم الاستفادة من عمق تلك التجربة التاريخية والحضارية العريضة والتي ليست لها نموذج آخر في الامتداد الزمني؟ والحقيقة أن الإمبراطورية الأمريكية إذا كانت قد غيرت الكثير من مضمونات التاريخ المعاصر علي الصعيد المعلوماتي والتكنولوجي والعسكري والثقافي. فإنها لم تستطع أن تغير قواعد الحركة التاريخية, علي الصعيد الحضاري. ذلك أنها حققت بالفعل درجة صارخة وتوافقا شاذا بين ارتقاء المادة وهبوط المعني!!