مدينة التعددية ليس مجرد لقب تميزت به الإسكندرية بل وصف حقيقي لما شهدته من تعدد للحضارات والأجناس التي مرت بها, ويتلخص هذا الجمال في صور لا تحصي.. منها ماجاد به الفن الراقي والزمن الجميل.. إلا أنها تشكو أحزانها منذ فترات وتبحث عن من يقدرها وينقذها.. منها آخر الوكالات التجارية الباقية من العصر العثماني.. الأولي وكالة الشوربجي. شيدها الشيخ عبد الباقي جورجي والثانية تربانة بناها الخواجة إبراهيم تربانة المسراتي, وكلاهما من أصل مغربي, لتكونا شاهدتين علي التنوع والثراء والجمال الحضاري الذي حظيت به المدينة. وعلي مدار ما يزيد علي3 قرون وقفتا في منطقة المنشية, أقدم وأعرق أحياء الإسكندرية, صامدتان في وجه الزمان دون رعاية سوي محاولات ترميم غير متخصصة من جانب أهالي المنطقة, والتي أدت إلي طمس العديد من الزخارف والعناصر التاريخية النادرة فيهما, وعقب ضمها إلي سجل الآثار بالقرار الوزاري رقم10357 لسنة1951, بدأت أولي محاولات الوزارة لترميم الشوربجي عام2010 إلا أنها توقفت تماما عقب قيام ثورة25 يناير. يقول الدكتور محمد عوض- أستاذ الهندسة المعمارية- ورئيس لجنة الحفاظ علي التراث بالإسكندرية, إن بناء الوكالات التجارية شاع بصورة كبيرة في العصر الإسلامي, باستخداماتها المتعددة حيث كانت تتضمن المسجد والمدرسة والمسكن والمتجر, مشيرا إلي أن حالة الوكالتين المتبقيتين تدهورت بصورة كبيرة خاصة بعدما تحولت المنطقة المحيطة بهما إلي مرتع للباعة, وأصبحتا في حاجة عاجلة إلي الترميم بسبب هذا الوضع المزري. وأوضح عوض أن وكالة تربانة هي الوحيدة الباقية من أصل3 وكالات, تقع في منطقة المنشية, كان قد قام بتشييدها الخواجة إبراهيم بن عبيد تربانة المسراتي عام1684, والتي أسهمت في تحويل المنطقة إلي سوق تجاري ضخم, وارتبطت إلي حد كبير بديوان الجمرك الذي كان قريبا منها. ويضيف عوض أن الخواجة إبراهيم خصص بعض الوحدات السكنية بإحدي وكالاته لليهود نظرا لما تميزت به هذه المنطقة من كثافة الوجود اليهودي بسبب عملهم في ديوان الجمرك, مشيرا إلي أنها تتكون من فناء مكشوف تحيط به مجموعة حواصل دكاكين يعلوها طابقان تشغلهما وحدات سكنية, ومسجد معلق, ولها مدخل كان يغلق عليه مصراعان من الخشب. ويشير عوض إلي أن الوكالة الأخري الشوربجي بناها مواطن مغربي الأصل أيضا يدعي الشيخ عبد الباقي جورجي عام1758, وأصبح يطلق عليها وكالة الشوربجي عقب ذلك, وهي تقع بالحي التركي في المنشية, وتشغل مساحة مستطيلة تتكون من مستويين السفلي يضم الحواصل الدكاكين وميضأة للمياه, والعلوي يضم البيوت وليس لها إلا واجهة واحدة مسقوفة بسقف خشبي وزخرفت بالرسوم الإسلامية المعروف, بالإضافة إلي المسجد المعلق, كما تشتمل علي فناءين مكشوفين, ويغلق عليها أيضا مصراعان من الخشب. ويؤكد رئيس لجنة حفظ التراث, أن عائد المحال التجارية والوحدات السكنية كان يخصص للإنفاق علي المسجد وتجديد المباني بالإضافة إلي مساعدة الفقراء, وهو ما ساهم في بقاء الوكالات لقرون طويلة كما هي, مطالبا الدولة بتشجيع الجمعيات الأهلية والمتبرعين للقيام بهذا الدور مرة أخري. ويقول أيمن الجوهري, مفتش في الإدارة العامة للتوثيق الأثري والباحث في المنشآت التجارية بالإسكندرية في العصور الإسلامية: إن الإنسان عرف الأسواق منذ القدم حيث أقيمت في أول الأمر في ساحات المعابد ثم روعي عند تخطيط المدن أن يترك مكان فضاء لإقامة السوق, إلا أنه ومع التطور استدعي ظهور منشآت تجارية لمواكبة واتساع حركة التجارة, ومن هذه المنشآت ما عرف في الحضارة الإسلامية باسم الوكالات. ويوضح الجوهري أن استعمال مصطلح وكالة كان مقتصرا علي مصر دون غيرها من بلدان العالم الإسلامي, ثم انتقل منها إلي بلدان أخري كبيزنطة وإسبانيا والبرتغال, وقد وردت أول إشارة لهذا المصطلح في وثائق الجنزا ترجع إلي القرن الحادي عشر الميلادي, ثم بني المأمون البطائحي, وزير في عهد الخلافة الفاطمية, دار الوكالة بين سنتي1122 و1137, وعرفت الوكالات في المدن باسم الخان أو القيسارية, كما عرفت في فارس والأناضول باسم مسافر خانة وكرفان سراي بمعني منزل. ويضيف الجوهري أن الوكالات انتشرت بعد ذلك في العصر الأيوبي والمملوكي وشارك بعض سلاطين وأمراء الدولة المملوكية في تشييد هذه الوكالات مثل وكالتي قايتباي, ووكالة الأمير قوصون, كما قامت بعض السيدات بإنشاء العديد من الوكالات مثل وكالة تاج الملوك بنت الظاهر بيبرس, ووكالة عائشة خاتون ووكالة نفيسة البيضا من العصر العثماني. ويشير الجوهري إلي أن الوكالة كانت كالفندق تستخدم للتجارة والسكن ونزول المسافرين مع بضائعهم, كما اتخذت بعض الوكالات مصانع لأصحاب الصناعات الحرفية, وقد عرفت الإسكندرية العديد منها استخدمت جنبا إلي جنب مع الفندق منذ العصر المملوكي, موضحا أن تربانة والشوربجي هما آخر الوكالات الباقية في الإسكندرية. وفي المقابل, يؤكد محمد متولي, مدير عام الآثار الإسلامية والقبطية بالإسكندرية البدء في ترميم وكالة تربانة خلال أيام, بعد أن قامت وزارة الآثار بتخصيص ميزانية لها, كما أشار إلي قيام لجنة أثرية الأسبوع الماضي, بالاتفاق مع مستأجري المحال التجارية الكائنة أسفل المسجد علي الخروج منها من أجل ترميمها ومن ثم عودتهم مرة أخري, وذلك علي نفقة الوزارة دون تكليف المستأجرين أو وزارة الأوقاف. ويضيف مدير عام الآثار الإسلامية والقبطية بالإسكندرية, أنه تم إدراج وكالة الشوربجي في قائمة الآثار التي تحتاج إلي ترميم للبدء في ذلك فور توافر مخصصات مالية, مشيرا إلي أن قيام ثورة25 يناير أوقف عملية الترميم التي كانت قد بدأت عام..2010 وأكد أنه خلال أيام تبدأ أعمال ترميم تربانة.