بعد أن صنعت ثورة25 يناير ما كان يراه الكثيرون دربا من الخيال بإسقاطها نظام حكم استمر عقودا طويلة بل ووصل الأمر لمحاكمة أقطاب ورموز هذا النظام بمن فيهم الرئيس السابق حسني مبارك أصبح السؤال حول تأثير محاكمة الفاسدين علي المستقبل وهل يمكن أن يكون رادعا لفساد الصغار في ظل تأكيدات بأن الفساد كان نظاما كاملا لم يسقط منه سوي القشور.. توجهنا بسؤالنا إلي الدكتور أحمد شوقي العقباوي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر الذي أكد لنا أنه ان لم يكن رادعا فهو سيعيد الثقة بأن هناك شفافية ومساءلة للجميع. وحذر العقباوي في حواره مع الأهرام المسائي من أن وجود مبارك جديد ونظام فاسد آخر أمر وارد في ظل اعادة انتاج الأخطاء وأن الضمانة الوحيدة لمنع ذلك هو وضع دستور جديد لا يعطي سلطات مطلقة لأنها الباب للإفساد مطالبا بأن يكون الاهتمام الحالي بالعمل الجاد لتصبح فترة بعد الثورة فوضي خلاقة نعبر منها للمستقبل الذي نريده, وكان الحوار التالي: * ما هو التأثير النفسي لمحاكمة الكبار علي المصريين في جميع المواقع خاصة وهو أمر غير معتاد وهل سيكون رادعا للفساد بجميع صوره؟ ** المحاكمات ليست رادعا للفساد ولكنها ستسهم في إعادة الثقة للشعب المصري في أن هناك مساءلة في النهاية فكل التطور الذي حدث في البلاد المتقدمة ديمقراطيا كان بسبب إعلاء قيم الشفافية والمساءلة وبالتالي كل مسئول يعلم أنه سيحاسب ومأساتنا في البلاد العربية أن الحكام يعاملوننا كرعية وبالتالي يبيعون ويشترون فينا وهم يعلمون أنهم لن يحاسبوا ولذلك فما حدث يمثل نقلة نوعية ستشعر الشعوب بأنها قادرة علي ممارسة حقها في اختيار الحكام وايضا ابعادهم عن السلطة ومحاكمتهم إذا اخطأوا بما يمثل عودة الأمور لنصابها خاصة أن هذه الشعوب متدينة بطبعها. الا ان البعض حول الدين إلي كلام فقط دون تنفيذ حتي فقدت الأجيال الجديدة الثقة في جدوي الأديان, حيث الكبار يقولون ما لا يفعلون ففقدوا مصداقيتهم ولذلك فإن ما حدث من ثورة ومحاكمة للمسئولين عن الأوضاع التي كانت قائمة علاوة علي أنها سابقة تاريخية في المنطقة فهي ستعيد الثقة للناس في أننا شعوب تستحق الحرية والديمقراطية وأننا نستحق أن نتحول من رعايا إلي مواطنين مسئولين عن حياتهم. * ولكن لماذا من الأساس سرنا عكس الاتجاه حتي وصلنا لهذه الدرجة من سوء الأوضاع ومن ظلم وفساد استمر كل هذه السنوات؟ ** للأسف بدأ الفساد باسم الدين منذ عهد عثمان بن عفان وأري أن الإسلام الصحيح انتهي بموت عمر بن الخطاب فعثمان القائل: أنا لا أتنازل عن ثوب ألبسنيه الله, كما لو كان الله سبحانه وتعالي فوضه في الحكم في حين أن مفهوم الخلافة يعني خلافة رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم جاءت أحداث صراع معاوية بن أبي سفيان علي السلطة والدولة حتي تحولت إلي ممالك وأصبحت قصور الحكم مكانا تمارس به جميع الآثام وهناك من الفقهاء من يزين للحكام ما يفعلونه ولا يردونهم إلي الصواب حتي وصل الفساد للركب مثلما رأينا. * من السبب في الإفساد الحكام أم المحكومون؟ ** الإثنان فهي مسئولية مشتركة. وإذا طبقنا ذلك علي النموذج المصري وتحديدا الرئيس السابق حسني مبارك. نحن من صنعنا منه فرعونا لأنه لم يجد من يرده ولابد أن نعي أن المسألة امتداد لمقولة أبي القاسم الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر فشكل الحياة التي نريدها ليس فقط التخلص من القيد والظلم ولكن الاحتفاظ بالكرامة والحقوق الانسانية بأن تمارس الشعوب دورها في مراقبة الحكام وأن تفرض عليهم السير علي الصراط المستقيم عن طريق أن تكون هي الديدبان أو الحارس الذي يمنع حدوث الانحرافات مرة أخري. * كعالم نفسي وفي ظل قراءتك للشعب المصري وأحواله هل كنت تتوقع حدوث ثورة؟ ** أي شخص مهما كان يقول إنه كان يتوقع ما حدث فهو كاذب فما فعله الرئيس الراحل أنور السادات من خداع استراتيجي قبل حرب أكتوبر1973 حدث أيضا في ثورة25 يناير. * هل تقصد أن الشعب المصري مارس الخداع الاستراتيجي في ثورته الجديدة؟ ** بالفعل فقد فاجأ المصريون العالم كله فقد كان هناك تصور بأن هذا الشعب وصل لمرحلة التولة مثلما قال عنه يوسف ادريس عام1987 وهي آلية نفسية تفقد الشخص القدرة علي الاحساس وتجعله يمارس حياته كما لو كان لا يشعر وبالتالي كان التصور ان الأمور تسير ورغم الفقر وسوء الأوضاع فالمصريون يعيشون ورغم الاهانة والمهانة فالجميع راضون ولن يكون هناك تغيير ولكن كان هناك ثلاث قنابل موقوتة الأولي هي المهانة الشديدة في علاقة الحاكم بالمحكوم, والثانية التناقض والفجوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء, والثالثة هي الفتنة الطائفية والجميل في الأمر أن الثورة ليست ثورة جياع كما أنها لم تقم بسبب الفتنة الطائفية ولكن قامت بفضل عدد من الشباب اتفقوا علي رفض المهانة وضرورة التغيير فكونوا تنظيمهم في المجتمع الافتراضي وحددوا توقيت عملهم فأصبحوا كما لو كانوا ممثلي الأمة ومحققي الرغبة في التخلص من القهر والمهانة ونزلوا للشارع فبدأت بثورة للشباب علي جيل الأباء والأمهات كسروا بها حاجز الخوف في ظل المجتمع الأبوي الذي يرفع شعار احترام الكبير حتي لو كان مخطئا وهو ما رفضه الشباب الذي أخذ زمام المبادرة وفتح باب التغيير فالتف حوله الشعب وتحول الأمر من حركة احتجاج شبابي إلي ثورة لأن الأمور كانت مهيأة والشعب كان معبي وجاهز للثورة. * هل هذا يعني أن الثورة كانت آتية لا ريب في ظل الظروف السيئة وجاهزية الشعب لها؟ ** لكن كان لابد من المبادرة الأولي والشباب المصري لهم شرف القيام بهذا الدور فبدونهم أشك في أن الثورة كانت آتية. * لماذا؟ ** لأن سوء الأوضاع منذ أعوام لدرجة أن الأجيال كانت معتادة عليه وتتعامل معه كأمر واقع ليس بيديهم تغييره فالتراث يحمل أمثالا من نوعية اصبر علي جار السوء حتي يرحل أو تأتي له مصيبة لكن الشباب الجديد بحماسته واطلاعه علي الأوضاع الأخري في العالم ومقارنتها بأوضاع بلاده قرر ضرورة التغيير ثم جاءت ثورة تونس فكانت الحافز لإمكانية تحقيق ما يريد. * وكيف تقرأ الأوضاع بعد الثورة؟ ** تاريخ الثورات يوضح أنه في أعقاب حدوثها تأتي مرحلة عدم استقرار تصل إلي حد الفوضي التي تستغرق وقتا حتي يتم بناء نظام جديد مغاير للنظام القديم ولذلك فما يحدث حاليا أمر طبيعي فنحن في مرحلة الفوضي التي نريدها فوضي خلاقة لا فوضي مدمرة. * وكيف يتم ذلك؟ ** بالعمل فلابد أن نبدأ في تنظيم أنفسنا لما نريده وأن تسير الأمور في طريق تقديم المتهمين بالفساد للقضاء المدني فقد كان من السهل عقد المحاكمات العسكرية وتنتهي الأمور سريعا مثلما حدث بعد ثورة1952 التي سميت محاكمات الثورة ولكن ذلك له عواقب سيئة فعظمة ثورة25 يناير أنها ثورة سلمية وقانونية وهو ما بهر العالم وبالتالي فأنا متفاءل ولكن ليس مثل تفاؤل الساذجين الذين يرون أن الثورة غيرت في الشخصية المصرية وهو ليس صحيحا فهي حادث استثنائي مثلما كانت حرب أكتوبر1973. * لماذا تراها كذلك؟ ** يوم6 أكتوبر لم يسجل جريمة واحدة وتعاملات الناس وقتها كانت مليئة بالتعاون والحب ولكن بعد ذلك عادت ربما كعادتها القديمة ويجب أن نكون واقعيين فتغيير المجتمعات لا يتم في فترة قصيرة ولكن بالجهد والعرق والاصرار علي تحقيق النجاح ولنبدأ بسؤال ما الذي تغير في سلوكيات كل منا وانعكس علي واقعه الشخصي. * ما الذي سيحدد طول أو قصر فترة الفوضي حتي الاستقرار؟ ** المخزون الحضاري لدي المصريين ولا أتوقع أن تنتهي الفترة قبل عامين أو ثلاثة أعوام خلالها تتم إعادة صياغة أسلوب إدارة الاقتصاد المصري ونظام الحكم وهي فترة ليست طويلة فالثورة الفرنسية مثلا استغرقت17 عاما منذ يوم دخول الجماهير الفرنسية إلي ميدان الباستيل في بداية الثورة وحتي تمام الاستقرار وكذلك البرازيل وشيلي وغيرها فلا داعي للقلق واستعجال الأمور. * بصفتك أستاذ بجامعة الأزهر كيف تقرأ تحركات الإسلاميين عقب الثورة؟ ** أقرأها كشئ متوقع فهؤلاء يعملون منذ عقود طويلة ولم يتوقفوا منذ1928 وبداية تكوين الشيخ حسن البنا لجماعة الإخوان المسلمين وفي رأيي الحركات الإسلامية هي رد فعل لاحساس المسلمين والشعوب العربية بأنها رسبت في اختبار الحضارة, وبالتالي تحاول أن تستعيد الماضي الجميل وقت ازدهار الحضارة الإسلامية فما يحدث محاولة للعودة إلي التراث لكن للأسف القائمين عليها رجال دين لا يتعاملون مع الأمر بشكل عقلاني ولكن بشكل أكثر ما يكون مثل الببغاء تردد كلاما فقط فأصبح الأمر مليئا بسوء الفهم للدين ومجرد شكليات فقط وأنا هنا لا أخلط بين الإسلام والمسلمين فالنقاش لا يجب أن يكون حول الإسلام ولكن حول المسلمين وتدهور أوضاعهم التي وصلوا إليها فجوهر الديمقراطية جسده الامام الشافعي بمقولته رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لكنه يحتمل الصواب فليعذر كل منا أخاه فيما اختلفنا فيه ولنعمل جاهدين علي ما يمكن أن نتفق عليه وكذلك الامام أبوحنيفة الذي قال هذا خير ما وصلت اليه وإذا أتاني أحد بخير منه قبلت به, فهذه هي السماحة وقبول الرأي الآخر. * وإذا عدنا لمصر بعد الثورة وسألنا عن روشتة نفسية للوصول لمصر التي نريدها؟ ** لا توجد روشتة ولكن مطلوب العمل الجاد وليكن كل منا رقيبا علي نفسه وتصرفاته بمعني تغيير السلوكيات الخاطئة التي اعتدنا عليها. * هل يمكن أن يعيد الماضي نفسه من جديد مستقبلا ونجد أنفسنا أمام مبارك آخر أو نظام فاسد جديد؟ ** نعم وارد أن يحدث ذلك إذا ما تمت اعادة انتاج الأخطاء التي أدت لحدوث ذلك في الماضي فظهور الانحراف من جديد ممكن. * وما الضمانة لعدم حدوث ذلك؟ ** السير في الخطوات العملية بوضع دستور جديد لا يعطي صلاحيات مطلقة تتحول فيما بعد إلي مفسدة وأن يتم تداول السلطة في وجود أحزاب قوية وممارسة للحياة السياسية بشكل حقيقي في ظل قانون به محاسبة للجميع مهما كانت مواقعهم سواء وزراء أو رئيس جمهورية أو غيره مع ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية لعدم تكرار ما حدث في مصر في الثلاثين عاما الأخيرة من تغول للسلطة التنفيذية علي السلطة التشريعية ومحاولات الاعتداء علي السلطة القضائية ففي الفصل التام بين هذه السلطات الضمان لأن تكون مصر دولة مدنية محترمة. * وماذا عن العدالة التي افتقدها المواطن المصري حتي اصبح غريبا في وطن يعطي ثرواته لفئة قليلة علي حساب الأغلبية المطحونة؟ ** بالفعل حدث ذلك منذ انفتاح السداح مداح الذي أدخله الرئيس الراحل أنور السادات وكان الناس وقتها مشتاقين لمباهج الرأسمالية ولم يلتفتوا إلي الثمن الصعب لذلك حيث قانون الرأسمالية يشير إلي أنه في الخمسين عاما الأولي من تطبيقها يزداد الأغنياء غني والفقراء فقرا ورغم أنه كان هناك نمو وصل في سنة من السنوات إلي7.5% لكن القضية ظلت أن عائد هذا النمو كان يذهب للأغنياء دون الفقراء وبالتالي فنحن نحتاج إلي تنمية تحتوي علي بعد العدالة الاجتماعية بحيث يتم توزيع عائد النشاط الاقتصادي للدولة علي المواطنين جميعا مثلما تدور المناقشة حوله حاليا من وضع حد أدني وحدا أقصي للأجور بما يعني تدخل الدولة وضبط الأمور وعدم تركها دون نظام واضح يحمي المواطنين. أجرت الحوار: فاطمة العربي