اسمح لي صديقي القارئ أن نتأمل معا هذه الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي نعيشها حاليا والتي لا تخفي علي أحد والتي لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالي, وهو الوحيد القادر علي أن يخرجنا من كبوتنا هذه, لأننا قد عجزنا عن الحل,فالغلاء فاق الحدود والأمراض تفشت واستوحشت, والظلم أصبح ظلمات, وضاعت الأخلاق وانتشر الفساد في شتي مجالات الحياة,بل يمكنني أن أقول إن حياتنا ذاتها قد انهارت وأصبحنا ننتظر قارب النجاة متأملين منتظرين فمتي وكيف؟ الله أعلم. وحيث إنني لست متشائما ولا أدعو إلي التشاؤم فأذكركم وأذكر نفسي بالعودة إلي الوراء قليلا وكيف وكم كانت الحياة أصعب بكثير مما نحن فيه اليوم,فما الذي يجعلنا نشعر هذه الأيام وكأننا في أسوأ حالاتنا,إذا ما عقدنا مقارنة بسيطة بين حالنا اليوم وحالنا منذ كنا صغارا سنجد أن الخدمات كانت أقل ووسائل الرفاهية كانت أقل, كانت هناك أخلاق وكان لدينا حسن تعامل, وكنا نعرف الصبر والحياة الكريمة العفيفة,من هنا أقول الله يرحم أستاذنا الفاضل ضياء مدرس الانجليزية عندما ذهبنا لنأخذ درسا أنا وأخواي الاثنان فقال أنتم ثلاثة أخوة سأعطي أحدكم الدرس مجانا وكانت قيمة الدرس طوال الشهر خمسين قرشا فتعلمنا منه القناعة والرحمة,وعم السيد الحلاق الذي كان يحلق للعائلة طوال السنة مقابل كيلة من القمح أو الأرز. والله يرحم عم محمد الخياط الذي كان يفصل لنا الجلباب والبيجامة في العيد,وعم حسنين الجزماتي أو الصرماتي الذي كان يغير نعل الحذاء بعد تعدد ثقوبه,والله يرحمك يا حاجه أم السعد التي كنا نذهب إليها بعد صلاة الفجر وفي أيدينا حلة وطاسه لنأخذ منها السمك الصغير والجمبري لنقدمه للبط والإوز مع الدشيشة والرجيع والكوسة,والله يرحمك يا عم طلبة ورجالك وأنتم تدرون القمح وسط العفار والتراب, وتصنفون صليبة القمح بجمال رائع والأجرة في النهاية كيلة قمح. والله يرحمك يا عم مطاوع النجار وأنتم تشقون الخشب والأشجار بمنشار طوله متران لتصنفوا تروس السواقي الكبيرة والصغيرة,والله يرحمك يا خالة غزلان وأسرتك القديرة وأنتم تصنعون الأقفاص من الجريد, والله يرحمك يا خالة صدفة وأسرتك وأنتم تصفون السدد لتعريش البيوت, والله يرحمك ياعم مصطفي صانع عروق الخشب لتسقيف البيوت والدواوير, والله يرحمك يا عم مختار وياعم مغاوري وأنتم تبيعون الخضراوات والليمون علي ظهوركم, والله يرحمك يا عم رزق وأنتم تبتاعون الدندورما بشقة عيش أو بيضة, والله يرحمك ياعم صابر يوم السبت نأخذ منك الحلوي الشعر, والله يرحم الأمهات الفضليات وهن يقمن فجرا لصناعة الزبدة والسمن وكل أصحاب المهن اليدوية يعملون ليل نهار مقابل التعامل بنظام المقايضة عند الحصاد آخر العام بعفة وضمير وحياء. كان الجميع متعاونا ومتعارفا بعلاقات بشرية ضاعت عندما تم استبدال النظام القروي بنظام المدينة والمدنية تقليدا للأوروبيين فلا أصبحنا أوروبيين أو فرنجة ولا بقينا كما كنا مصريين. هل وقف الاستيراد الآن هدفه العودة للحفاظ علي هذه المهن والعودة اليها؟ إن المسألة ليست تلك المهن في حد ذاتها ولكنها كانت تعكس ممارسة الجميع للعمل والتعاون من أجل الاستمرار في الحياة دون مغالاة أو إسراف في الاستهلاك, أما اليوم فالغالبية إما لا تعمل أو تعمل متضررة وتنتظر يوم أن تتوقف عن العمل أو تتظاهر بالعمل وتتهرب من مسئولياتها بينما الجميع يسرفون في الاستهلاك ويحلمون بالمزيد منه بما لا يتناسب مع ما يقومون به من عمل, أدعو الله أن يكون انخفاض قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية والتوجه نحو وقف الاستيراد بداية الطريق نحو عودتنا جميعا إلي الإنتاج, فنبدأ بتغيير أنفسنا كي يغير الله ما بنا.