قال إن رؤيته لآثار تعذيب علي جسد شقيقه الدكتور لويس عوض فور خروجه من المعتقل كانت لحظة فارقة في حياته, وإن ذلك جعله يكرس كل حياته للدفاع عن حرية التعبير, وإن اهتمامه بمعسكرات الاعتقال ومحاكم التفتيش, والمصادرات الفكرية, ليس إلا انعكاسا لتلك التجربة الأليمة.. وفي حوارنا معه يقول د. رمسيس عوض: مازلنا نعيش في القرون الوسطي من الناحية الفكرية برغم استخدامنا لمنجزات العلم الغربية, وإن المجتمعات العربية في حاجة إلي من يحررها من التخلف والظلام.. ويقول: نعاني حملات التفتيش في العقول والضمائر. والدكتور رمسيس عوض أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الألسن جامعة عين شمس, نموذج للأستاذ الجامعي الجاد, وهو مفكر وأديب وناقد ومترجم ومؤرخ للأدب, وموثق بيبلوجرافي قدير أيضا, وله ما يربو علي السبعين كتابا ما بين تأليف وترجمة, تضم عددا كبيرا من الموسوعات الفكرية عن المصادرات والهولوكست والمحاكمات الفنية والأدبية في الغرب, وكان لكتاباته الفضل في سد الكثير من الفراغ في المكتبة العربية, وفي مقدمتها المصادرات والمحاكمات الفكرية ومعسكرات الاعتقال النازية التي بلغت وحدها اثني عشر كتابا.. وله كتابات رائعة عن أدب المنشقين في الاتحاد السوفيتي. ورمسيس عوض من أول من قاموا بترجمة روايات نجيب محفوظ إلي الإنجليزية, فساعد علي تعريف العالم الخارجي بالقيمة العالية لهذا الأديب.. وموسوعته البيبلوجرافية في المسرح المصري نموذج يحتذي به في مجال الدراسات المسرحية الجادة. وفي بداية الحوار سألته ما هي عوامل التأثير, ومن أين روافد الثقافة التي غذت الأسرة ليصبح فيها علمان كبيران من أمثال لويس ورمسيس عوض؟ أعترف بالفضل لاثنين أثرا في تأثيرا كبيرا, أبي كبير المترجمين بالسودان, وشقيقي د. لويس عوض, الذي عاد من البعثة في جامعة كامبريدج سنة1939 وكان عمري عشر سنوات; حيث كنت أنا أصغر إخوتي, وكان هو أكبرنا, ولذا كان الدكتور لويس بمثابة الأب الثاني, وهو الذي تولي رعايتي والإنفاق علي أثناء دراستي بالجامعة, بل هو الذي اختار لي تخصصي في اللغة الإنجليزية, وكان مثلي الأعلي في كل شيء.. وكان د. لويس يأتي لقضاء إجازة الصيف في المنيا, وهناك ترجم بعض كتبه وهو شاب صغير, منها كتاب شيلي بروميثيوس طليقا عام1947, وما أذكره عن أبي أنه كان شخصا منكبا علي القراءة معظم ساعات النهار, فأصبحت الكتب هي غذاؤنا اليومي, ولويس هو الذي أرشدني لقراءة كتب طه حسين وسلامة موسي, والعقاد, وأنا أستطيع أن أقول: إنني كنت شديد الإعجاب بتوفيق الحكيم لبساطة أسلوبه, وفكاهته, فقرأت له يوميات نائب في الأرياف, وعودة الروح, وأهل الكهف وأنا مازلت في يفاعتي. وقبل التحاقي بالجامعة سنة1946 وتخرجت من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزيةجامعة فؤاد الأول, والغريب أنني لم أكن أرغب الالتحاق بهذا القسم, لكن الذي أرغمني علي دخوله هو الدكتور لويس عوض, وأنا كنت أريد دراسة الفلسفة والصحافة وهما دراستان في غاية التناقض, فالصحافة ليست دراسة التعمق بعكس الفلسفة, وعندما أنظر لهذا الآن أعرف أنه أراد بي خيرا, فإذا كانت لي قيمة الآن فهي لنقلي لثمار الحضارة الغربية للغة العربية, فأنا جسر بين حضارتين. وفور تخرجي عينت معلما بالمدرسة الثانوية بالمنيا, وهناك تعرفت علي مدرس الكيمياء, وكان محبا للقراءة, وكان يسافر كل أسبوع للقاهرة من المنيا, ويأتي لي بكل الكتب التي تربطني بالعالم, وكان أحد عناصر التكوين الثقافي, وكان له الفضل أيضا في توجيهي للقراءة الجيدة والمتعمقة والجادة, وربطني بالثقافة الغربية منذ أول خطوة خطوتها في حياتي العملية فقرأت لكل الكتاب العالميين الغربيين الذين تربينا عليهم في مصر. البيبلوجرافيا في المسرح المصري, عمل موسوعي ينم عن جدية وتحد.. ما هي قصة هذه الموسوعة ولماذا ترك في نفسك ألما وحزنا كبيرين؟ كان حلمي وخطتي أن أنتج بيبلوجرافيا شاملة في المسرح والرواية والشعر, وساعدني في هذا عدد من تلاميذي, ولكنني جوبهت بحروب كثيرة, وأنجزنا بيبلوجرافيا التي غطت أحداث وشجون المسرح المصري في ثلاثين عاما, وبلغ عدد مداخل البيبلوجرافيا للمسرح فقط خلال هذه الفترة,14 ألف مدخل, هدفت من خلالها توفير الوقت والجهد علي الباحثين, وكان الأمل كبيرا للغاية لأن أنجز هذا المشروع في الرواية والشعر والرواية والقصة أيضا, وكان الدكتور محمود الشنيطي أعجب بأسلوب ونتيجة العمل الذي نقوم به وكان رئيسا لهيئة الكتاب في ذات الوقت, وعرض علي أن أعمل معه في هيئة الكتاب, ولكن لتمسكي بالجامعة رفضت العرض, ومن هنا بدأت المشاكل, ولم توافق الوزارة علي طبع البيبلوجرافيا. وهل وقف أحد إلي جوارك؟ لم يقف أحد بجوارنا سوي توفيق الحكيم, حاول التدخل ولكن المجلس الأعلي للثقافة رفض رغم جهود الحكيم, بل رفض استمرارنا في العمل, ورفض نشر بيببلوجرافيا المسرح, ما أصابني بالاكتئاب, ووجدت أن المناخ لا يساعد علي الإبداع, وأن المثقفين هم من يعادون العلم, وهنا تمثلت مقولة طه حسين: إلي الذين لا يعملون, ولا يريدون للآخرين أن يعملوا ولهذا أري أن نكبة مصر الحقيقية في مثقفيها, وكل مثقف في منصب ما وراءه قوي ما هي التي تدفع به وتأخذ بيده. علاقتك بتوفيق الحكيم بدأت بالمعارك الأدبية, وبقدر ماكان غاضبا منك في البدايات الأولي, أشاد بك وصرتما صديقين في النهاية, فما قصة تلك العلاقة؟ في1974 سافرت في بعثة لجامعة صنعاء حتي1977, تفرغت خلالها للبيبلوجرافيا, وأنجزت منها كتبا غير مسبوقة, منها كتاب عن المسرح المصري من19191900, وطبعته علي نفقتي الخاصة, في حين كانت وزارة الثقافة تطبع ما يفيد وما لايفيد, وأظهرت في هذا الكتاب كيف كان الشعب يقاوم الاحتلال الإنجليزي بمسرحيات وطنية وحماسية مهمة, وكيف كان الاحتلال يقوم بالهجوم علي المسارح ويطرد المشاهدين, ويقبض علي الممثلين والعاملين في مثل تلك المسرحيات ويطاردهم. وماذا كان يجري علي الجانب الآخر؟ علي الجانب الآخر كان هناك مسرح آخر هابط, تتزعمه فرقة عكاشة, وكان توفيق الحكيم قد أرسله والده لدراسة القانون في فرنسا, ولكنه بدلا من ذلك كان يرسل المسرحيات الهابطة إلي فرقة عكاشة, لدرجة أنني أطلقت عليه مهرج في بلاط عكاشة وأتذكر من مسرحياته المبتذلة جدا, مسرحيةالعريس, الظل الثقيل, والاحتلال الإنجليزي وكان كتاب: توفيق الحكيم الذي لا تعرفه ولما انتهيت من الكتاب لم أجد من يطبعه, ذهبت به لدار المعارف, وكان حلمي مراد مديرا للنشر, أخبرني بأن توفيق الحكيم وهو عضو بمجلس إدارة دار المعارف رفض نشر الكتاب. ولكنك ذهبت إلي توفيق الحكيم في ذلك الوقت؟ نعم.. ولما ذهبت إليه, هاجمني بل ووجه لي سبابا ونقدا لا يليق, وقال لي: مين وزك علي وكان قد كتب في ورقة تعليقا علي الكتاب أشبه بالسباب, وصفني أنني جاهل بفترة العشرينيات, وكلام هايف, ولا يتفق والتقاليد العلمية وسجل تلك الكلمات القاسية في الورقة, استطعت أن آخذها, وأضمها للكتاب, وحصلت علي وثيقة من حلمي مراد تفيد تدخل الحكيم لمنع نشر الكتاب لأسباب شخصية, ونشرت كل هذا, ما سبب حرجا شديدا للحكيم, وكان بمثابة الفضيحة, لدرجة أن صلاح عيسي كتب معلقا توفيق الحكيم ضبط في حالة غير ليبرالية.. وبقي الحكيم علي غضبه مني إلي أن نشرت كتابا عن مسرحه الجاد وكتبت نقدا يشيد بمسرحية أهل الكهف, ضمنته نقد إعجاب طه حسين بالمسرحية, فاستقبلني في مكتبه وبعد أن كنت لا ألتزم بالتقاليد الجامعية, قال لي: أنت ناقد بارز. وهل أبرز لقاؤك بتوفيق الحكيم ملامح علاقته بعميد الأدب طه حسين؟ وكان لطه حسين فضل كبير علي الحكيم كأديب, ووعده بأن يكتب مقدمة لمسرحية أهل الكهف; بل وكتب عددا من المقالات كلها تشيد بأهل الكهف, ولكن الحكيم عندما قابلني أنكر فضل طه حسين عليه, لدرجة أنه قال لي: لماذا تبدأ الكتاب بمقال طه حسين, الذي له الفضل, ليس طه حسين, بل هو الشيخ مصطفي عبد الرازق الذي أفتي بأن ماجاء في أهل الكهف, لا يتناقض مع القرآن, ولكن يظهر أن الدكتور طه حسين كان مشغولا فتأخر من كتابة المقدمة, فأرسل له الحكيمخطابا بالفرنسية قال فيه: إنني لا حاجة لي بكتابة مقدمة للكتاب. مررت بعدة عصور.. الملكي.. والثورة وعبدالناصر والسادات ومبارك, ثم ثورة يناير وما بعدها.. أي من هذه العصور تراها هي الأفضل للمصريين من وجهة نظرك ؟ أزهي عصر وأفضل عصر أحن للرجوع إليه هو العصر الملكي, كان التعليم جيدا, بالرغم من قلة أعداد المتعلمين, وكان التعامل في المصالح الحكومية يتم بكل الأمانة والحرص, وكانت هناك أخلاق, وقيمة الاحترام موجودة فرض واجب وعين, الآن المشهد اختلف, الكل يتجرأ علي الكل, وفقدنا قيمة الأدب, فضلا عن انهيار كامل للأخلاق, وبسبب هذا المناخ عم الفساد وانتشر, وفي1952 بدأت مرحلة ما بعد ثورة يوليو, وتم التخلص من محمد نجيب ليمسك عبدالناصر بزمام الأمور, وكان يعرف كيف يتعامل مع مشاعر الجماهير. بدأت في شبابك بالانضمام للفكر الشيوعي في مصر, ولكنك كتبت عن الشيوعية والاتحاد السوفيتي, وكأنك انقلبت علي معتقدك الأول.. ماذا حدث بالضبط؟ رسميا لم أنضم للشيوعيين, وإنما كنت متعاطفا معهم, وكان تعاطفي شديدا أيضا, ولكن تغيرت معتقداتي مع سفري في بعثة إلي بريطانيا, وهناك رأيت عيوب الاقتصاد الشيوعي الذي كنت أرفض حتي النقاش حوله, وكنت أسير معتقداتي لفترة طويلة, ومع السفر بدأت المراجعة التي استمرت سنوات; حتي اقتنعت أخيرا بفساد الشيوعية, وكتبت كتاب أدباء روس منشقون وهو من الكتب الخطيرة لأنه صدر قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بعامين, وتنبأت فيه بانهيار الاتحاد السوفيتي, من ناحية أخري قرأت لكتاب مثل أندريه خيد, وارثر كسلر, وراسل, وغيرهم ممن استضافهم الاتحاد السوفيتي ليشاهدوا الشيوعية عن كثب ثم كفروا بالشيوعية بعد ذلك.. وبرتراند راسل زار روسيا وقابل لينين, ومن لقاء واحد معه استشف فساد الأصول التي تقوم عليها الأفكار الشيوعية, ويقول في مذكراته: قابلت لينين وقال لي: كيف كان يحرض الشيوعيون الثائرون علي قتل الأبرياء وتعليقهم في أقرب شجرة, وكان يحكي لي وهو يقهقه ضاحكا, هذه الملحوظةنبهتني إلي أن الرجل يفتقد للضمير الإنساني ماجعلني لا أثق في مبادئ الشيوعية التي تجافي أدني المشاعر الإنسانية.. هل لنا أن نقول إن ثمة علاقة بين مؤلفاتك والمصادرات بشكل عام؟ كل أعمالي في نهاية الأمر لها علاقة بالمصادرة, وإذا كانت أعمالي لها أهمية, فأنا ولا فخر أول من كتب بتوسع عن فكر المصادرات في الغرب, وأول من نقل ما يشبه الموسوعة عن الهولوكوست ووسائل تعذيب اليهود والمسلمين في محاكم التفتيش في الأندلس, وأنا أول من عمل علي سد الفراغ في المكتبة العربية في هذه الموضوعات, وعالجت موضوعات لم يسبقني إليها أحد, وتم تجاهلها لفترات طويلة, ونصوص قديمة مثل محاكم التفتيش, لم يتم الكشف عنها بشكل تام إلا بعد أن كتبت عنها وترجمت كل ماكتب عنها في دول أوروبا؟ وما هي خلاصة تجربتك في الكتابة عن محاكم التفتيش في فرنس؟ كتبت عن محاكم التفتيش في فرنسا وعرفت أن المسيحية كانت مهددة بالفناء أمام الهرطقة, وهم من يفسرون الدين بتفسير مختلف عن تفسير الأغلبية, وهو ما تعتقده فئة قليلة عن الدين, تتهمها الأغلبية بالهرطقة, وواجهوا المهرطقين بمحاكم التفتيش, والتي كان يتولاها البابا, وكانت سلطته أقوي من الملك, لدرجة أن البابا كان يركع أمام أقدامه طلبا للعنف, وكان لهم بوليس خاص وسيلة لتنفيذ أهوائهم. كتبت كثيرا عن الهولوكست وإنشاء إسرائيل.. برأيك هل كانت هناك علاقة بينهما وهل بالفعل يدرك العرب قيمة قولهم: اعرف عدوك؟ مقولة اعرف عدوك.. أطلقها العرب, ولم يفعلوا شيئا لمعرفة هذا العدو, وإذا كان اليهود قد خططوا لسلب فلسطين كوطن لهم, اكتشفت علاقة وثيقة ما بين الهولوكوست وإنشاء دولة إسرائيل, فيه معسكر مهم جدا في تاريخ إنشاء دولة فلسطين, اليهود أمام التعذيب النازي وغرف الغاز, كل من عاش بعد الحرب وانتصار الحلفاء, والغرب تعاطف مع اليهود, وكافأهمبمنحهم وطنا قوميا في فلسطين لتعاونهم معه في الحرب, واكتشفت أن من كان يذهب من أوروبا لفلسطين مباشرة, كانوا معتقلي معسكر برجن بلسن, ولهذا أشرت في الكتاب إلي عنوان فرعي: برجن بلسن- المعسكر الذي ساهم في إنشاء دولة إسرائيل.