رغم الخراب والدمار الذي تعيشه سوريا منذ مارس2011, فإنه مازال يوجد هناك ما يستحق الحياة, وهو ما يذكرنا بقصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش علي هذه الأرض ما يستحق الحياة, حينما وصف حبيبته فلسطين بامرأة تترك الأربعين من عمرها وهي مازالت بكامل مشمشها.. وها هي سوريا لم تتوقف عن الغناء, حتي في أشد المعارك ضراوة, فمعظم مقاهي ومطاعم سوريا بكل منها فرقة موسيقية تعزف وتغني, تختلط أصوات الموسيقي بدوي الانفجارات, وطوال الحصار الذي عاشته دمشق كانت فرقة جوقة الفرح تقدم عروضها في دار الأوبرا, التي لم تغلق أبوابها رغم القذائف التي طالت الشوارع والمباني, وبين مستشفيين في حلب يستقبلان الجرحي يوجد مطعم يصدح فيه الغناء, ويصل إلي أسماع الجرحي. لا تعني هذه المشاهد أن الشعب السوري منقسم أو أن من يغنون لا يشعرون بمعاناة الجرحي, بل لأن الموت أصبح معتادا, وأنهم لن يجعلوه ينال منهم أو من حبهم للفن والحياة, فالقذائف يمكن أن تطالهم في أية لحظة, والكثير ممن يغنون سوف يتوجهون إلي جبهات القتال, وقال لي شاب كان يردد الأغاني مع مطرب في مقهي إنه ذاهب إلي معسكره في الصباح, ويقع معسكره في قمة هضبة موحشة ونائية, لا يسمع فيها إلا صوت المدافع وانفجار السيارات المفخخة, فليستمتع بالحياة, فربما لن يتمكن من حضور مثل هذه الأمسية الجميلة, ويحكي عن أصدقاء فقدهم في أثناء المعارك, وآخرين جرحي, وبطولات وتضحيات نادرة, وحياة علي كسرة خبز في أثناء معارك وحصار لمواقع لا يعرفون متي تنتهي, لكنهم واثقون أنهم سينتصرون, فلا يمكن أن تستسلم سوريا بحضارتها وفنونها وعلمها لجماعات همجية, تفوق التتار في وحشيتهم. أصبح أقوي وأكثر خبرة وتسليحا الجيش السوري.. الرقم الصعب! الجيش السوري, يبلغ عدده نحو500 ألف مقاتل, منهم200 ألف مقاتل عامل, و300 ألف مجند, قالت المعارضة إنه انشق عنه في عام2011 نحو40 ألفا, لكن المصادر الرسمية تنفي ذلك, وتقول إن العدد لا يتجاوز المئات, لكن هناك أعدادا كبيرة تسربت من التجنيد نتيجة حالة الفوضي, وخروج بعض المناطق عن سيطرة الدولة, وانضم بعض المجندين للجماعات المسلحة إما تحت الترهيب أو الترغيب, لكن الفترات الأخيرة شهدت إلقاء أعداد كبيرة منهم السلاح والعودة إلي الخدمة في الجيش السوري. لم تتأثر أعداد قوات الجيش السوري كثيرا, سواء بسقوط عدد كبير من القتلي والمصابين, أم بانشقاق عدد محدود انضم للمسلحين, وتمكن الجيش من تعويض خسارته سريعا, وقبول دفعات جديدة من المتقدمين للكليات العسكرية. علي غير المتوقع يؤكد قادة بالجيش السوري أن الجيش قد أصبح أقوي من أي وقت مضي, لخوضه معارك حقيقية وطويلة وفي ظل ظروف متغيرة, لا يمكن مقارنتها بالمناورات التي لا تتم عادة بالذخيرة الحية إلا نادرا, ولا تستغرق سوي أيام, ولا يمكن فيها توفير أجواء المعارك, لكن ضباط وجنود الجيش خاضوا الكثير من المعارك الصعبة, وفي أصعب الظروف الجوية, من الطقس الغائم إلي الحر القائظ, إلي سقوط الثلوج في الشتاء, وفي الصحراء والجبال وحروب المدن. كما استفاد الجيش من الاحتكاك بخبرات جديدة ولفترات طويلة, سواء بالعمل مع القوات الروسية أم الخبراء الإيرانيين أم مقاتلي حزب الله المعروفين بخبراتهم وقدراتهم المتميزة, وتمكن ضباط وجنود الجيش السوري من تعلم الكثير من تكتيكات القتال وتطبيقها علي أرض الواقع بفضل هذه الخبرات المتنوعة. أما في مجال التسليح فقد عوض الجيش السوري خسائره في الحرب بأسلحة أكثر تطورا, فقد عقدت سوريا صفقة أسلحة مع روسيا بقيمة8 مليارات دولار, وجري خفض السعر إلي النصف لتدفع سوريا4 مليارات فقط, ستدفعها علي أقساط خلال10 سنوات, وشملت دبابات تي90 الحديثة والمجهزة باستخدام أشعة الليزر في الرماية, لتصيب أهدافها بدقة كبيرة ليلا أو نهارا كما شملت الصفقة ألفي مدفع من عيار120 مليمترا, وكل مدفع تحمله شاحنة, ليكون سريع الحركة أثناء القتال, ويجري تحديد أهدافع بالرادار, إلي جانب3 آلاف عربة مدرعة لنقل الجنود, مجهزة بأربع رشاشات عيار120 مليمترا, وصواريخ أرض أرض من نوعي سكود وفروغ, تتمكن من ضرب الأهداف بعيدة المدي بدقة كبيرة, ولم تفلح جهود إسرائيل في إثناء روسيا عن تزويدها بهذه الصواريخ. كا شملت أحدث طائرات الميج31 والسوخوي35 الاعتراضية والقاذفة السوخوي34 وهي من أحدث وأهم الطائرات في العالم, وتستطيع سوخوي أن تحمل12 طنا من القنابل والصواريخ شديدة الدقة والتدمير, إلي جانب تطوير منظومة الدفاع الجوي, لتكون قادرة علي التصدي لكل أنواع الطائرات. كما تسلمت سوريا صواريخ إيرانية من مختلف الأنواع, مستفيدة بالخبرة الإيرانية في مجال تصنيع وتطوير الصواريخ, منها صواريخ أرض أرض, وأرض بحر, وصواريخ مضادة للدروع. قوات الدفاع الوطني تشكلت قوات الدفاع الوطني من رافدين أساسيين, أولها خروج شباب عدد من المدن والبلدات للدفاع عن أهلهم وممتلكاتهم بعد تعرض الكثير من الأحياء والبلدات, لهجمات من الجماعات المسلحة وارتكبت فيها مجازر مروعة, وأخذت رجالها أسري ونساءها سبايا, فهب الرجال والشباب للزود عن أنفسهم بشكل تلقائي, وأمدهم الجيش السوري ببعض الأسلحة الخفيفة, وبعد نجاحهم في حماية عدد كبير من أحياء المدن والبلدات, بدأ تنظيمهم وتدريبهم ليكونوا نواة قوات الدفاع الوطني. أما الرافد الثاني فهو تدفق عدد ممن رغبوا في التطوع, في الوقت الذي فقد فيه الجيش السوري أعدادا من قواته في المعارك والانشقاقات والتسرب من التجنيد, وعدم قدرته علي تغطية نقاط الاشتباك الكثيرة جدا, التي تجاوزت المناطق الحدودية مع كل من تركيا والعراق ولبنان والأردن والكيان الصهيوني, وظهرت الخلايا النائمة من المسلحين في مناطق عديدة مثل ريف دمشق الشرقي والغربي وريف حمص وحماة ودرعا وحلب وغيرها من المدن, شملت معظم جغرافيا سوريا, ولهذا نظمت المتطوعين لسد الفراغ في بعض نقاط الاشتباك. جري دمج المتطوعين وتنظيمهم وتدريبهم وتزويدهم بأسلحة متوسطة وثقيلة, وأصبحت رديفا للجيش السوري, وتجاوز عدد المتطوعين من الرجال والنساء في الدفاع الوطني أكثر من100 ألف متطوع, واكتسبوا مهارات قتالية كبيرة, وشاركوا في معارك المدن, واستطاعوا تحرير الكثير من البلدات وحماية مناطق واسعة كانت عرضة لهجمات الجماعات المسلحة, التي أطلقت عليهم اسم شبيحة النظام, وتنسب إليهم عمليات انتقامية, وقالت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية إن هذه المجموعة لعبت دورا حاسما في تحسين الوضع العسكري للقوات الحكومية في سوريا من صيف2012, عندما توقع العديد من المحللين أن سقوط النظام بات قريبا. لكن يجري وصف قوات الدفاع الوطني بالميليشيات غير المنضبطة, وينسبون إليها ارتكاب عدد من الانتهاكات والمجازر, ولا ينفي العميد سمير سليمان رئيس شعبة الإعلام في القيادة السياسية للجيش السوري وقوع تجاوزات, وقال لي إنهم تلقوا ارتكاب مخالفات في العديد من الأماكن, لكن الجيش السوري لم يكن باستطاعته أن يغطي كل النقاط في مواجهة غيلان داعش والنصرة وغيرها من الجماعات الهمجية, ولم يكن أمامنا خيار سوي تسجيل ومتابعة أي انتهاك ومحاولة احتوائه, لكنه يؤكد أن هناك من خططوا للإساءة للجيش السوري وقوات الدفاع الوطني, وأنه جري إلباس بعض الأشخاص زي الجيش أو قوات الدفاع الوطني, وإطلاقها النار علي مدنيين عزل, وارتكاب مجازر لينسبوها لهذه القوات, وجري تصويرها باحترافية عالية, تؤكد الترتيب الجيد لها, ومحاولة إثارة الفتنة في الداخل وكسب الرأي العام في الخارج, وكثير من الوقائع المنسوبة لقوات الجيش والدفاع الوطني مفبركة تماما, لكن لا يمكن نفي حدوث اختراقات داخل قوات الدفاع الوطني, إما من جانب بعض الأشخاص والعصابات التي أرادت النهب والسلب, وتخفت في ملابسهم, أو من يريد الإساءة إليهم وسعي إلي فض التأييد الشعبي لهذه القوات التي نجحت وضحت وبذلت الدماء وكسبت معارك مهمة, بل حررت مناطق كثيرة, وأعادت الثقة للسكان, الذين لم ينزحوا من مناطقهم, اعتمادا علي حماية قوات الدفاع الوطني. دواعش الداخل والتعفيش.. أخطر مخلفات الحرب من أكثر المصطلحات شيوعا في سوريا دواعش الداخل والتعفيش والخطف, التي ظهرت بعد الأحداث, والمقصود بدواعش الداخل هي الفئات التي استثمرت الحرب وحققت الثراء السريع باستغلال الأزمات, وتشمل قائمة دواعش الداخل أي مسئول أو صاحب نفوذ أو تاجر عمل في السوق السوداء, واستغل النقص الحاد في بعض السلع, ونظموا شبكات للاحتكار, تخفي السلع, لتبيعها بأضعاف أسعارها, وأثرياء الحرب ظاهرة معروفة, لكن امتداد الحرب في سوريا لأكثر من6 سنوات, واتساع نطاقها بطول البلاد جعل مثل هذه العصابات أكثر عددا وقوة وتنظيما, واستطاع بعضها الحصول علي السلع المخصصة للمحتاجين والمحاصرين والمساعدات المحلية والدولية والاتجار فيها, أما الدمار الجزئي أو الكلي لبعض المصانع فجعل من استيراد بعض قطع الغيار أو السلع التي توقف إنتاجها منجما يدر الكثير من الربح. أما ظاهرة التعفيش فقد انتشرت في الكثير من الأماكن التي تعرضت للنزوح أو هرب أصحابها وتركوا بيوتهم, فقد تشكلت عصابات لسرقة محتويات هذه المساكن, وتأتي شاحنات كبيرة ويتم كسر أقفال البيوت ونهب ما بها من أثاث وتجهيزات, وتستعين العصابات بأشخاص يبلغون عن المساكن الشاغرة, التي نزح منها سكانها لأي سبب, وتمنحه حصة من عائد السرقات, وتركز العصابات علي المناطق الأكثر ثراء والمساكن الفاخرة, فالعصابات مستويات ودرجات, ويعتقد السكان أن هذه العصابات تمكنت من رشوة رجال أمن أوشخصيات لها نفوذ لتحميها. أما أكثر المشكلات الأمنية خطورة وتعقيدا فهي عمليات الخطف,التي يكون في مقدمة ضحاياها أبناء الأثرياء, الذين يمكنهم دفع إتاوات مقابل إعادة أبنائهم, وتستغل هذه العصابات غياب الأمن في بعض المناطق أو تعرض البعض للخطف عن طريق الجماعات المسلحة, وتمارس نشاطها في بعض ضواحي المدن والبلدات, وأحيانا تستدرج أطفالا لشخصيات معينة, أو تقوم بعمليات خطف عشوائية. آلاف الضباط والجنود لم يغادروا الثكنات لسنوات مئات القصص الحية عن تضحيات وبطولات تفوق الخيال, عشرات الآلاف أمضوا سنوات داخل معسكراتهم, لم يخرجوا في إجازة واحدة, ولم يروا إلا زملاءهم داخل الثكنات, خاضوا الكثير من المعارك في أثناء الحصار, وحملوا أصدقاءهم الشهداء والجرحي, واقتسموا القليل من الطعام والخبز الجاف, هذه البطولات حدثت في مطار كويرس الذي حاصره ذئاب داعش نحو3 سنوات, ومطار ومدينة دير الزور والمحاصرين للعام الرابع حتي الآن, ونبل والزهراء اللتين تحررتا العام الماضي, ومطار حلب المحاصر من داعش في الشرق والنصرة وأتباعها في الغرب, والفوعة وكفريا المحاصرتين حتي الآن, وثكنات عديدة ظلت جماعة القتل والحرق والذبح من الدواعش والنصرة تحاول السيطرة عليها, وتهدد بأنها سوف تلحق بهم أشد أنواع العذاب إذا لم يستسلموا. أمهات تركن أبناءهن وشاركن في القتال المباشر مع مسلحي داعش, ينمن داخل حفر, ويراقبن أي محاولة تسلل ويشتبكن مع المسلحين, وسقطت مئات الشهيدات علي جبهات القتال, ورفضن الاكتفاء بالبقاء في المواقع البعيدة عن نقاط الاشتباك. أهالي الشهداء ضحوا بفلذات أكبادهم, لا يمكن الكتابة عن آلاف قصص التضحيات, لكن عندما كنت في حلب سمعت بقصة التوأمين ياسين وحسان اللذين أصرا علي الالتحاق بالخدمة العسكرية معا, وحاول والدهما إثناء أحدهما, والاكتفاء بوجود واحد علي جبهة القتال, لكنهما تمسكا بأن يكونا معا, وعندما أصيب ياسين, رفض شقيقه التوأم أن يتركه, وظل يقاتل إلي جانبه حتي استشهدا معا, مثلما ولدا معا. التقيت العقيد فادي عباس وعددا من ضباط وجنود ملحمة مطار حلب, الذي كانت تسقط عليه القذائف كالمطر من كل صوب, لكن حاميته ظلت نحو3 سنوات تدافع عنه تحت حصار مرعب, وقال لي العقيد فادي الذي لاحظت وجود سريره داخل مكتبه, وصوت فيروز يصدح في المكان, كنا ندرك أن سقوط المطار يعني سقوط حلب, ولا يمكن أن نحتمل فكرة أن تسقط حلب, فحلب ليست مجرد مدينة, فهي تاريخ ورمز له قيمة لا يمكن التفريط فيها, فهي مدينة الفن والثقافة والإنتاج والعمل, إنها روح سوريا التي لا يمكن التفريط فيها مهما بلغت التضحيات, ولهذا مرت علينا أيام طويلة لا نذوق فيها طعم النوم, فحماية المطار الواسع, الذي يحيط به آلاف المسلحين ومئات السيارات المفخخة ومدافع جهنم والهاون والمدرعات والانتحاريون تحتاج أن تكون القوات في حالة استنفار دائم, وعلي أهبة الاستعداد لصد أي هجوم, وكنا نقضي الليل والنهار إما في قتال مباشر, أو ترقب لهجوم علي أحد جوانب المطار, وعشنا هكذا شهورا وسنوات لم نعد نحصيها, فلم نكن نعرف في أي يوم نحن ولا التواريخ, وكل ما يشغلنا هو عدم سقوط المطار. كانت تصل لنا الإمدادات بطائرات صغيرة, نجهز لها أحد المدارج, ونحاول إصلاح المدرج من آثار القذائف حتي تتمكن الطائرة من الهبوط ليلا, وبلا إضاءة, تجنبا للنيران, وهو تحد خطير من الطيار, الذي يسترشد لمعرفة مكان الهبوط بالقليل جدا من الضوء, ومع ذلك كانت تتعرض الطائرات لوابل من النيران عند هبوطها, وإحدي الطائرات تمكنت من الهبوط رغم إصابتها ب38 طلقة من مدفع رشاش ثقيل, وأحدث بها إصابات مؤثرة, وحطت بمعجزة. كانت الطائرة تحمل لنا القليل من الذخيرة والطعام, وتأخذ الجرحي والشهداء من أصدقائنا الضباط والجنود, ولأننا كنا في حاجة ماسة للذخيرة, فكنا نضحي إلا بالنذر اليسير من الطعام والشراب. المصالحات .. انتصارات دون قتال! نجحت لجان المصالحات في تسوية أوضاع نحو10 آلاف مسلح, كانوا ينتشرون في مناطق واسعة تمتد من درعا وريفها والشيخ مسكين في الجنوب قرب الحدود الأردنية, وحتي القنيطرة والجولان في جنوب غرب دمشق, وبالقرب من حدود الكيان الصهيوني, وامتدت المصالحات إلي أهم معاقل الجماعات المسلحة في ريف دمشق الغربي والشرقي وحتي حمص وحلب. جاء نجاح المصالحات بسبب عاملين رئيسيين, أولهما أن سكان الكثير من المناطق عانوا من حكم الجماعات المسلحة, الذين أهانوهم وغيروا نمط حياتهم وتدخلوا في أشد خصوصياتهم حساسية, وبدأوا يفرضون الاتاوات علي السكان, ويرغمونهم علي تزويج بناتهم من المسلحين, وإجبار الشباب علي القتال بجانبهم, وما زاد المعاناة أنهم لم يمتثلوا لإلحاح السكان بوقف قصف الجيش السوري من داخل المناطق السكنية, حتي لا يرد الجيش السوري أو يفرض الحصار حولهم, فلا يتمكنون من رعاية مصالحهم أو الخروج لعملهم, بل كانت الجماعات المسلحة تتعمد إطلاق القذائف من أكثر الأماكن ازدحاما بالسكان. سقطت رهبة الجماعات المسلحة بعد أن سقطت هيبتها, فقد كان دعاتها يقولون إن الخير والبركة ستعمان علي مناطقهم, لأن الله معهم والملائكة تحارب في صفوفهم, وإذا بالخراب والدمار يحل مع هذه الجماعات, وعندما ضج الشباب منهم وبدأ يرفض الانضمام إليهم استخدموا ضدهم كل وسائل العنف والترهيب من القبض عليهم وعلي أسرهم وأقاربهم, وجري قتل بعضهم, ظنا أن الترهيب سوف يجبر السكان علي الاستسلام والرضوخ, لكن استمرار الضغوط والانتهاكات وإهمال الجماعات المسلحة لكل شئون الحياة, جعل السكان ينقلبون عليهم, وزادوا من ضغوطهم علي المسلحين لكي يرحلوا عن مناطقهم. خرجت الكثير من المظاهرات التي تطالب المسلحين بالرحيل, وترفع أعلام الدولة السورية في تحد واضح لكل أساليب الترهيب, وجري إطلاق النار علي بعض هذه المظاهرات فزاد السكان إصرارا علي رحيلهم. أخذت الانشقاقات تدب في الجماعات المسلحة داخل الأحياء والبلدات التي يسيطرون عليها, وبدأوا يوافقون علي التفاوض من أجل خروجهم, لكن قطاعات كبيرة من الشباب التي انخرطت في صفوفهم رفضت الرحيل, وتمسكت بتسوية أوضاعهم, والاستفادة من العفو العام. تراجعت الجماعات المسلحة أكثر من مرة في مفاوضات الرحيل أو التسويات, ووافقت الحكومة السورية علي نقل المسلحين وأسرهم إلي أي مكان يرغبون في الانتقال إليه, وتوفير حافلات تقلهم إلي تلك الأماكن, لكن تراجع المسلحين جاء بسبب ضغوط دول أجنبية هددت بوقف تمويل أي مجموعة مسلحة توافق علي الترحيل إلي إدلب أو أي مكان آخر, بالإضافة إلي خوفها من رفض معظم شباب هذه المناطق الانتقال معهم, والتمسك بالبقاء وعقد تسويات, فتقدم المسلحون بشروط يصعب علي الحكومة السورية قبولها, منها إطلاق سراح أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات الإرهابية, لكن الحكومة وافقت علي إجراء عمليات محدودة لتبادل الأسري, وكان يجري إطلاق أعداد كبيرة من المسلحين, مقابل إطلاق سراح المخطوفين من النساء والأطفال الذين تحتجزهم الجماعات المسلحة, أو بعض من اتهمتهم بالتعاون مع النظام, وجاءت هذه التنازلات لتجنيب السكان مخاطر القتال داخل الأحياء السكنية. شارك في مفاوضات التسويات وزارة المصالحات التي كانت علي اتصال بجميع أجهزة الدولة الأمنية والخدمية, بالإضافة إلي مشاركة القوات المسلحة وأعيان تلك المناطق وممثليها الشعبيين, نجحت الكثير من المصالحات التي وصفها البعض بأنها مجحفة في حق الدولة, وأن القضاء علي المسلحين كان الأفضل والأسهل, لكنها شجعت علي دخول أعداد أكبر في مفاوضات المصالحات, وامتدت الشروخ في جماعات المسلحين, وزادت الضغوط الشعبية عليهم من أجل مغادرة مناطقهم, وحدثت اشتباكات مسلحة بين الأهالي والمسلحين, دفعتهم إلي تسريع وتيرة المفاوضات, والتخفيف من الشروط التعجيزية. كشف شباب القري عن الانتهاكات والفظائع التي كان يرتكبها المسلحون, وأدلوا باعترافات خطيرة حول علاقتهم بجهات أجنبية, والمبالغ التي يدفعوها لضم الشباب, وسلموا الأسلحة إلي الجيش السوري, وكشفوا عن مخازن الأسلحة والألغام التي زرعها المسلحون قبل ترحيلهم, وعاد الشباب لأداء الخدمة العسكرية, ومحاربة الجماعات المسلحة التي كانوا في صفوفها, وحظت المصالحات بارتياح كبير, وكانت الأحياء والبلدات تنظم مهرجانات احتفالا بالعودة إلي الدولة ومغادرة المسلحين لمناطقهم. مصير الشباب والرجال.. يا قاتل يا مقتول 3 آلاف طفل مجهول الأب تركهم المسلحون في حلب عندما تسيطر إحدي الجماعات التكفيرية علي مدينة أو بلدة, تجري فرزا للسكان, وتجمع الشباب في ساحة, وتخبرهم أن حياتهم السابقة كانت فسقا وفجورا وكفرا, وتطلب منهم إعلان التوبة والنطق بالشهادتين, لتعتبرهم مسلمين, وبعض الجماعات تصدر شهادات مؤقتة بأن الشاب اعتنق الإسلام, وتجدد هذه الشهادات المؤقتة حسب درجة الالتزام والطاعة, ومن بين الاختبارات أن يشارك الشباب في الحرب ضد باقي المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة الكافرة, فإن وافق علي القتل يمكن اعتباره مسلما صحيحا, وإن لم يوافق يكون قد سقط في اختبار الإيمان ويكون جزاؤه القتل, وهكذا يكون مصير من وقع تحت حكم التكفيريين إما قاتلا أو مقتولا, ويختار الأغلبية أن يصبحوا قتلة تحت تهديد السيوف. أوضاع المسلمين من غير أتباع الجماعات التكفيرية أكثر سوءا من المسيحيين, فهم في نظرهم مرتدون, وقتلهم واجب, بينما يمكن اعتبار المسيحي من أهل الكتاب والاكتفاء بأن يدفع الجزية, لكن لا توجد حالة موحدة لتعامل الجماعات التكفيرية, فالأمر يختلف حسب معتقدات الجماعة وأميرها وظروفها, وجرت عمليات قتل بسبب خلافات مالية أو أحقاد قديمة أو تنافس تحت دعاوي مخالفة الشريعة أو الردة, كما جري قتل مسيحيين رفضوا التخلي عن ديانتهم, فهناك من يعتبرون أن كل من تصل إليه الدعوة الإسلامية ولا يعتنقها فهو كافر, ويجب قتله إذا لم يمتثل لدعوة اعتناق الإسلام. هناك شباب انخرطوا في القتل, ولم يعد بالإمكان أن يعودوا لممارسة حياتهم الطبيعية, وخرجوا مع المسلحين, ورفضوا تسليم أسلحتهم وتسوية أوضاعهم من خلال لجان المصالحات, فقد اندمجوا وتعايشوا مع أفكار وسلوك الجماعات المسلحة, وبرروا مشاركتهم في القتل بأنه جهاد ضد الكفار, لكن البعض سارعوا بتسليم السلاح, وقالوا إنهم كانوا مكرهين, ويريدون العودة إلي أعمالهم وممارسة حياتهم كما كانت قبل دخول المسلحين. الفتيات يجري حصر أعدادهن وأعمارهن, ويجري تزويجهن بأعضاء الجماعة, ومن الصعب أن يعترض الأب علي تزويج ابنته, لأنه سينال العقاب المناسب, مع أن الزواج يتم بالإكراه وبعقد قران شفهي, وغالبا لا يتم الإفصاح عن الاسم الحقيقي للزوج, والاكتفاء بكنيته, أي باسم الشهرة, مثل أبو قتادة البصري أو أبو عمر التونسي أو غيرها من الأسماء المحببة لأعضاء هذه الجماعات, التي تجعلهم يشعرون بالاختلاف عن غيرهم من مجتمع الكفار. 3 آلاف طفل في حلب مجهول الأب, تركهم المسلحون خلفهم, ووراء كل طفل قصة مأساوية, ضحيتها فتاة صغيرة وأب عجز عن حماية ابنته, وامتثل لأوامر أمراء المسلحين, وسلم ابنته ليزوجوها بأحد الأجانب أو عضو في الجماعة.