فاجأتني الصحيفة حينما نقلت عن مؤتمر صحفي عقد في نقابة الصحفيين أقامته جماعة من الإخوة النوبيين جاء فيه أنهم لا يطالبون بالانفصال عن مصر, وإنما الاستجابة لمطالبهم المشروعة. وبعد ذلك جاءت قائمة طويلة من المطالب, أعقبت اتهام رئيس الوزراء د. عصام شرف بأنه لم يقرأ الملف النوبي بالعناية التي يستحقها. والحقيقة أن ذلك إهمال من الرجل, وإنما لأنه كان ساعتها مشغولا بملف آخر لا يقل أهمية وهو ملف سيناء حيث كان عليه أن يذهب إلي شبه الجزيرة حاملا علي أكتافه أثقالا كثيرة لجزء من أرض الوطن يمثل البوابة الشرقية للبلاد. وخلال فترة لا تزيد علي العقد كثيرا تم احتلاله مرتين, وتم تحريره مرتين بدماء الشهداء ومهارة الدبلوماسيين معا. ورغم العناء الكثير لسيناء, والاحتفال بها وبأرضها مرتين في العام مرة في الخامس والعشرين من أبريل, ومرة في السادس من أكتوبر; وأحيانا مرة ثالثة في العاشر من رمضان, فإن الدولة لم تف قط بوعد لأهل سيناء بل إنها حرمتهم من الملكية والتنمية علي أراضيهم, وحتي عندما قام مشروع للتنمية بمد المياه إلي وسط سيناء, وتم الانتهاء من الحفر وضخ المياه, وقف الرئيس السابق في صورة شهيرة وهو يري المياه تتدفق إلي قناة داخل سيناء, إذا بالمشروع يتوقف عند التقاط الصورة. النتيجة قدر هائل من الغضب المتراكم, كتبت عنه مرارا, وعرضت لما هناك من مشكلات نجم بعضها عن إهمال, وأولويات مغلوطة, ولكنها دائما كانت أخطاء فادحة في الفلسفة. ومع الغضب جاءت أشكال كثيرة من التمرد العنيف الذي أخذ أشكالا شتي ليس هذا أوان التفصيل فيها. ولكن الأمر المهم هنا هو أنه أصبحت لدينا مشكلة كبري هي مشكلة قبائل أو بدو سيناء الذين لا يشعرون أن لهم نصيبا في وطن طالما طالبهم بالدفاع عنه, ثم بعد ذلك تركهم بلا تنمية ولا مشاركة في تحديد مستقبلهم. مشهد أهل النوبة لم يكن بعيدا تماما عن مشهد آخر جرت وقائعه علي أرض قنا حينما قررت جماعات من السلفيين الاعتراض علي قدوم محافظ جديد, جنرال شرطة كالعادة, ومسيحي هذه المرة أيضا. ولم يكن الاعتراض سياسيا فقط, بل كان عنيفا أيضا ويقوم علي شطر الوطن إلي نصفين: شمال قنا, وجنوبها حتي أسوان. لا سكك حديدية ولا نقل للسلع والبضائع والأفراد, وببساطة حركة انفصالية يمارس أفرادها حقوق السيادة علي السكك الحديدية والطرق الصحراوية والزراعية. وعندما تعب السلفيون, أو استجابوا لتوسل من ذهب لهم من أهل القاهرة أو أهل أسوان انسحبوا من علي خطوط السكك الحديدية حلت محلهم كما نشرت الصحف القبائل القناوية التي قررت أنه مادامت نجحت مظاهرات ميدان التحرير في التخلص من رئيس الجمهورية فلماذا لا يكون من حق مظاهرات قنا التخلص من محافظ لا تحبه حتي قبل أن تعرفه. هنا لا تهمنا كثيرا مسألة المحافظين هذه, ولنا رأينا فيها منذ وقت طويل سواء كان رفضا لاحتكار منصب المحافظ من جهات أمنية بعينها فيصير عينا علي الشعب وليس أداة لتنميته; أو رفضا لطريقة اختياره حيث كان الانحياز دوما لانتخاب المحافظ. ولكن الذي يهمنا هنا أن ما شهدناه خلال الأسابيع القليلة الماضية ليست مصر التي نعرفها بل هي بلد آخر مختلف تماما. مصر التي نعرفها هي أقدم دول التاريخ المركزية والتي تتمتع بدرجة عالية من التجانس العرقي والديني. وعندما قال لورد كرومر في بداية القرن العشرين إنه لا يعرف الفرق بين القبطي والمسلم إلا عندما يذهب أحدهما إلي الجامع ويذهب الآخر إلي الكنيسة فإنه لم يكن يسجل أمرا يحبه بل كان يشكو من حقيقة لا يستطيع تغييرها. ولكن ما جري خلال السنوات والعقود الأخيرة, ومنذ أحداث الخانكة عام1972 يأخذنا إلي مصر التي لا نعرفها حتي يبدو الحديث عن عنصري الأمة ووحدتهما نوعا من الهروب بعيدا عن حقائق مرعبة. وعندما بدا ولو للحظة واحدة خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير أن روح ثورة1919 قد عادت مرة أخري حين رفع المصحف مع الصليب, وأقيم القداس إلي جانب صلاة الجمعة; فإن الحلم ما لبث أن انقلب إلي كابوس مخيف بحرق الكنيسة في صول, وتهديد المسيحيين في شوارع المدن, وقطع أذني قبطي نتيجة شكوك جماعة نصبت نفسها حراسا علي الأخلاق العامة. ومهما تكن القبلات والأحضان واللقاءات وحراسة الكنائس التي حاول القيام بها بعض المخلصين من المصريين فإن الحقيقة المرة باتت أن المصريين لم يعودوا مصريين وكفي, وإنما صاروا مسيحيين ومسلمين وهذه صارت مصر الأخري التي لا نعرفها, والتي عندما وجدت الجماهير مشاكل مع رغيف العيش توجهت لقطع خطوط السكك الحديدية, وعندما انقطعت المواصلات لم يتولد رغيف خبز واحد. ووقت كتابة هذه السطور كان المرض المستشري هو أن الشعب لا يريد إسقاط النظام السياسي فقط, وإنما إسقاط النظام وكفي, فلا محافظ, ولا رئيس جامعة, ولا عميد كلية, ولا رئيس شركة عامة, ولا مدير مؤسسة عامة. انفكت النظم كلها وتبعثر المصريون إلي أديان وقبائل وألوان وأصبحت مصر المركزية المتجانسة في خبر كان. بالتأكيد لم يكن هذا ما تريده الثورة, وكثير مما جري يمكن إرجاع جذوره إلي النظام القديم, كما أنه يمكن إلقاء تبعاته علي الثورة المضادة أو فلول الحزب الوطني الديمقراطي الذي تم حله; ولكننا لسنا بصدد تسجيل نقاط سوف يتولي التاريخ تسجيلها نيابة عنا, وفي كل الأحوال وعند نقطة بعينها سوف يصبح علي الثورة أن تتحمل المسئولية التاريخية عما يجري فضلا عن المسئولية السياسية في الحفاظ علي أرض الوطن وسيادته وتكامل أراضيه ضد كل من يريد بها سوءا سواء كان من الداخل أو من الخارج. ما نحن بصدده أمر يقع في قلب قضية الأمن القومي المصري, ومصر التي لا نعرفها هي نقيض مصر التي نعرفها وحاربنا من أجلها ويجب علينا الآن أن نحارب من أجلها مرة أخري. وليس معني ذلك إطلاقا أن نتغاضي عن مشكلات أهل سيناء, أو القضايا الطويلة لأهل النوبة, ولا الحقوق الإنسانية للمسيحيين, وكل ذلك واقع في صميم ما ننادي به كل يوم عن دولة حديثة ومدنية وديمقراطية وبعد ذلك من حق كل فرد أن يسند ذلك إلي المرجعية الأخلاقية أو الفلسفية التي يراها. المهم أن تعود مصر التي لا نعرفها إلي مصر التي نعرفها; فلا يوجد تعريف شامل مانع جامع للأمن القومي قدر أنه حماية القيم العليا للوطن. وهذه القيم الآن واقعة تحت تهديد مخيف. [email protected]