حقا, بين دفء العلاقات وبرودتها خطوة واحدة, فمشكلة أي علاقة بين البشر, هي أنها إما تتصف بالبرودة والفتور, أو بالحرارة المؤلمة, فكل منا يحتاج إلي أشخاص يركن إليهم وقت الألم, ويجد معهم راحته وسكينته, ويشعر بالدفء إلي جوارهم, فهذه مشاعر بشرية طبيعية. ولكن مشكلتنا أننا نخفق في التفرقة بين دفء المشاعر, وبين القرب الذي يصل إلي مرحلة الألم الموجع. فعلي سبيل المثال عادة ما يتعايش الأبوان مشكلة الوجود في حياة أبنائهم; لأنهم بدافع الحب والرغبة في إحاطتهم بسياج الأمان, يحاولون التدخل في شتي أنحاء حياتهم, بغية حمايتهم, ولكنهم يصطدمون بردود أفعال أبنائهم, والسبب في ذلك أن التدخل الشديد يخلق نوعا من أنواع الألم, فكل إنسان كبر شأنه أم صغر يحتاج إلي نوع من الخصوصية, تشعره بكيانه, وبأنه مستقل, فهذا الشعور يمنح الإنسان الثقة بالنفس, في حين أنه علي الجانب الآخر, قد نجد أن الآباء قد يضطرون إلي منح الحرية الكاملة لأبنائهم, مما يخلق نوعا من أنواع الانفصال الذي يؤدي إلي البرود العاطفي بينهما. ولكن السؤال هو: لماذا لا يوجد توازن في العلاقات؟! وهذا ليس علي مستوي العلاقات الأسرية فحسب, وإنما علي مستوي جميع العلاقات, لماذا لا نفصل بين التقارب الذي يمنح الدفء ويشعر الإنسان بأن معه أشخاصا يحبونه, ويقفون إلي جواره, ويحيطونه بمشاعرهم ودفئهم, وبين الالتصاق الذي يخلق نوعا من الرفض لدي الأطراف; نظرا لاحتوائه علي التدخل المستفز في حياة الآخرين, للدرجة التي تضطرهم إلي الابتعاد التام; حتي يتمتعوا بالاستقلال الذي لن يرتضوا عنه بديلا. وللأسف, حينما يحدث الابتعاد الكامل تبدأ البرودة تسري في كيان الإنسان لاستشعاره أنه وحيد, ليس لديه من يبثهم مشاعره وآلامه, أو من يشاركه أفراحه وأحزانه, وهذه هي المعادلة الصعبة; لأن الإنسان دائما تختلط عليه المشاعر, ولا يستطيع أن يقف علي الشعرة التي تفصل بين التوازن والمبالغة. وأذكر قصة تحكي عن جماعة من القنافذ كانت تعيش معا في سفح الجبل, فلما جاءها الشتاء ببرودة الثلوج, وشعرت في الليل برعشة أصابت منها المفاصل والعظام, اقترح عليها واحد منهم أن يجتمعوا جميعا في كومة متلاصقة; حتي يدفئ بعضهم بعضا بحرارة أجسادهم, لكن جماعة القنافذ لم تكد تلتصق بعضها ببعض; طلبا للدفء, حتي أحس كل منهم بوخز الإبر الحادة المسنونة التي تغطي أجساد بعضهم بعضا, فما كان منهم إلا أن أفصحوا جميعا عن شدة آلامهم, وتفرقوا تماما, وعادت القنافذ فتفرقت كما كانت في أول أمرها, لكنها كذلك عادت فأحست زمهرير الشتاء يهز كيانها هزا عنيفا فنسوا ألم الوخز من شدة البرودة, وصاح بعضهم بعضا ينشد التلاصق مرة أخري; حتي يعود لهم الدفء, وعاد وخز الإبر ونسوا ألم البرد, فضجروا وتفرقوا مرة أخري, وهكذا ظلوا بين الاقتراب والابتعاد, المبالغة والإسراف, فإذا ابتعدنا أوغلنا في البعد حتي فقد كل منا دفء أخيه, وتعرض للبرد الشديد, وإذا اقتربنا أوغلنا في القرب حتي وخز كل منا جلد أخيه فأدماه. وبالفعل, فإن الاقتراب الشديد من حياة من يهمنا أمرهم, قد يصل بنا وبهم إلي جني الآلام; نظرا لافتقادهم أهم عناصر الاستقلالية في حياتهم; مما يتسبب في إيلامهم لنا حتي نخرج من حياتهم, فلن نجني معا سوي الآلام, والابتعاد الشديد لن يصل بنا إلا إلي فتور العاطفة, وجفاء المشاعر, والخروج من دائرة الحنان الذي لا يمكننا العيش بدونه, أما التوازن فهو معيار النجاح في كل العلاقات, وهو دائما أبدا بر الأمان, وعلينا أن نتذكر دائما, أن خير الأمور الوسط, وأن بين الدفء والبرودة خطوة واحدة.