عادت جثامين الشهداء من جوف البحر بأمواجه السوداء المتلاطمة, أسفل سماء مرصعة بنجوم كأشباح تتراقص علي أنغام الموت.. عبرت الحدود غافلت خفر السواحل.. حامت حول مراكب الصيد الخشبية, ألقت المجاديف في المياه, كسرت أقفال الثلاجات ببطن المراكب الحديدية, أفرجت عن أشباح الغرقي المحبوسين, ثم عادت إلي البر.. لتجد الأمهات الثكلي المتشحات بالسواد يفترشن الرمال يلطمن الخدود يمزقن ملابسهن وينعين!, ينتظرن صبرا وفرجا لا يأتيان. طافت الجثامين بشوارع الجزيرة, مرت علي البيوت والدكاكين, طرقت الأبواب تسأل عن أهلها, بحثوا في الغرف والشرفات, لم يجدوا أحدا,.. عند الرحيل لا أحد.. عند العودة لا أحد, بات الحلم غريقا في بلاد غريبة, يحلم الشطوط في الضفة الأخري من العالم, بكسرة خبز, لمسة حنونة تبدد صقيع العوز والغربة.. تمادي الحلم وغوانا حتي تعدي بوابات الحياة وانكسرت. فتح المسئول كتاب الأطلس, فرد الخرائط, أخذ نفسا عميقا من سيجارة.. أشار بعصا صغيرة مطفأة إلي قارات العالم, إلي بلاد تنتهي عند حدودها مراكب الموت بحثا عن أهازيج الحياة. مازالت الجثامين تطوف بالشوارع والأزقة.. تحتضن الرمال والمراكب والمقاهي, تحن إلي دفء البيوت.. أمسيات الليل تحت قمر مضيء.. شاي العصاري.. مشاجرات الأطفال.. مناوشات الجيران.. أحاديث السمر, تسأل عن أحباب رافقوهم, سقطوا منهم, غابوا في غياهب الليل, كم أكل ا لبحر من أحباب؟.. كم اتشحت القري بالحزن ورفعت رايات الموت؟.. كم بات الحلم غولا لا يرحم.. البحر تنينا أسطوريا يقلب المراكب يدمي القلوب.. يمنع الأغاني من التدفق والوصول؟ مازلت الجثامين حائرة تبحث عن حقها, عن ثأرها, عن كلمة طيبة في مذياع أو جريدة, عن دموع ليست بطعم ملوحة البحر, عن أريج طيب ليس برائحة السمك الميت.. مازالت مراكب الصيد تدور وتدور تفتش.. علها تجد حلما مازال طافيا. مهاب حسين مصطفي