من المعلوم أن نفس القارئ لهذه الرحلة تتطلع إلي معرفة نتيجة هذا السفر الذي صرفت عليه مصاريف لم تسبق لأحد, ولا سمع بها في التواريخ عند سائر الأمم, وانما تسطيرها لأنها أنجبت علماء منهم من وصل الي رتبة أساطين الفرنج هذه الكلمات وردت في ختام كتاب تخليص الابريز في تلخيص باريز لرفاعة الطهطاوي ليبدأ وصف طريق عودة البعثة العلمية عام.1831 ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين, نشهد تجارب تعليمية رائدة حديثة مثل تجربة كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وهونج كونج, لا يجب أن تغيب عن أعيننا تلك التجربةالمصرية الفريدة في القرن التاسع عشر التي بدأها محمد علي وأكملها بنوه وذريته من بعده عبر147 سنة لتكون الثمرة هي مصر الحديثة التي أنارت الطريق للأمة العربية كلها ولتكون مصر مركزا للتنوير والثقافة في القرن العشرين. كانت البداية هي ارسال محمد علي البعثة التعليمية الثالثة الي فرنسا عام1826, والتي كان امامها الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي. هي وبلا شك نواة بلورة نهضة مصر ومبعث فخرها. بلغ عدد المبعوثين في تلك البعثة40 تلميذا منهم17 مصريا كما أورد عمر طوسون في كتابه البعثات التعليمية في عهد محمد علي المنشور عام1934 تم اختيارهم بعناية, ثم التحق بهم أربعة آخرون, ورجع منهم خمسة لضعف أدائهم, حيث كان محمد علي يطلب منهم وعنهم تقارير أداء دورية من خلال ناظر البعثة السيد جومار. يقول الشيخ رفاعة في خاتمة كتابه: البعثة أنجبت علماء منهم من وصل الي أساطين الافرنج فهم مابين مدير للأمور الملكية وحائز كمال الرتبة في السياسات المدنية, كحضرة صاحب البراعة واليراعة رب الطالع السعيد وذي النجابة والرأي السديد عبدي أفندي, وما بين متمكن في معرفة ادارة الأمور العسكرية وراق فيها الي درحة عليا, وما بين رباني بسائر الأمور البحرية, أو خبير طب أو بالكيميا الصحيحة المرضية, وبصير بالطبيعيات وماهر في علم الزراعة والنباتات, ومنهم فائق الأقران في الفنون والصنائع. يستمر الشيخ في ذكر الانجازات التعليمية لأفراد تلك البعثة الرائدة ويعتذر عن الاطالة فيما حققوه وامتازوا فيه, ويشهد عن النوابغ منهم والممتازين: كيف لا أقول أن حضرة مصطفي مختار أفندي قد بلغ درجة كبار الفرنساوية في علم ادارة المهمات العسكرية وقد حاز مرتبة سامية من العلوم وتمكن من المنطوق منها والمفهوم ولا شك أنه ممتاز بالعلوم التدبيرية وجامع لمعارف الديار الافرنجية, وسع الله به دائرة المعارف بملك مصر والشام, وأما حضرة حسن أفندي وكذا الأفندية البحريون ففضلهم وكمال علومهم ثابت بالبرهان. يدل عليه امتيازهم بين الأقران, وشهرة اصطفان أفندي غنية أيضا عن البيان فقد حاز من العلوم ما حاز وفاز من الفنون بما فاز, ولا ينكر فهم أرتين أفندي في جميع أنواع العرفان, ولا خليل أفندي محمود وتعلم أحمد أفندي يوسف مشهود غير مجحود. ويلخص دورهم وإنجازاتهم لمصر بقوله: وبالجملة فالجل من الأفندية حصل المرام ورجع لنشر هذا بديار الاسلام. هذه هي بداية تجربة مصر العلمية الرائدة في القرن التاسع عشر التي آتت اكلها أضعافا مضاعفة والتي لا بد من الاستفادة منها والرجوع اليها مرة أخري والاقتداء بها ونحن في مستهل القرن الحادي والعشرين ونتطلع الي اللحاق بركب الأمم التي سبقتنا في هذا المضمار والتي كانت أقل منا شأنا في القرن التاسع عشر. نستعرض اليوم عودة هؤلاء النجباء بعد دراسة مدتها خمس سنوات مكللة بالنجاح. يصف لنا الشيخ العودة مثلما وصف لنا الذهاب في هذه الرحلة الميمونة فيقول: خرجنا من باريس في شهر رمضان1246 وسرنا نقصد مارسيليا لنركب البحر ونرجع الي الاسكندرية فمررنا علي مدينة فنتنبلو بقرب باريس, ويصف لنا ما بها من آثار وعمران, ثم وصولهم الي مدينة تيمور, ثم مرورهم علي مدينة كونه علي شط نهر ألورة, ثم علي مدينة مولن التي يوجد بها كثير من أولاد العرب الذين صحبوا الفرنسيينمن مصر الي فرنسا, ثم ساروا حتي وصلوا الي مدينة رونةقبل وصولهم الي مدينة ليون. يصف لنا تلك المدينة الصغيرة التي يبلغ تعداد سكانها علي حسب تقديره ومعرفته تسعة آلاف نسمة وما بها من زراعات وصناعة وهندسة وثقافة وأنه توجد بها مكتبة كبيرة. ثم وصولهم الي مدينة ليون ثم الي مدينة أورغون التي تقع علي جنوبباريس. يصفها بأنها تقع في سفح جبل, ثم مرورهم علي العديد من البلدان حتي وصولهم إلي مارسيليا والتي ركبوا منها سفينة أقلتهم الي الاسكندرية. يتطرق الشيخ بعد وصف طريق العودة الي انجازات الرحلة وملاحظاته الثاقبة وتأملاته بعد تحصيل العلم والثقافة والفهم. يقول: لم يبق علينا حينئذ الا ذكر خلاصة هذه الرحلة وما دققت فيه النظر وأمعنت فيه الفكر فأقول: ظهر لي بعد التأمل في آداب الفرنساوية وأحوالهم السياسية أنهم أقرب شبها بالعرب منهم للترك ولغيرهم من الأجناس, وأقوي مظنة القرب بأمور العرض والحرية والافتخار, ويسمون العرض شرفا ويقسمون به عند المهمات, واذا عاهدوا عاهدوا عليه ووفوا بعهودهم, ولا شك أن العرض عند العرب العرباء أهم صفات الانسان كما تدل عليه أشعارهم. ثم يشرح لنا شرح الخبير الذي رأي شعبا من الداخل وفهم ثقافته بعمق جعله يغور فيما وراء الظاهر فيقول: ولا يظن بهم أنهم لعدم غيرتهم علي نسائهم لا عرض لهم في ذلك, حيث إن العرض يظهر في هذا المعني أكثر من غيره, لأنهم وان فقدوا الغيرة, لكنهم ان علموا عليهن شيئا كانوا شر الناس عليهن, وعلي أنفسهم وعلي من خانهم في نسائهم, غاية الأمر أنهم يخطئون في تسليم القياد للنساء, وان كانت المحصنات لا يخشي عليهن شيئا. الشيخ يعكس فهما شديدا للغرب كله وثقافته, حديثه وقديمه بهذا الشرح, لأنه يدرك اختلاف الثقافات والعادات, ويفهم أن للحرية دورا كبيرا في مسار الحياة, وكذلك التربية. أيضا هو لم يطبق قياسه التقليدي والثقافي علي ما يري. يقول: كثيرا مايقع السؤال من جميع الناس علي حالة النساء عند الافرنجكشفن عن حالهن الغطاء وملخص ذلك أيضا: أن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن, بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة والتعود عليمحبة واحد دون غيره, وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين. وقد جرب في بلاد فرنسا أن العفة تستولي علي قلوب النساء المنسوبات الي الرتبة الوسطي من الناس دون نساء الأعيان والرعاع, فنساء هاتين المرتبتين تقع عندهم الشبهة كثيرا, ويتهمن في الغالب. يستمر في برهانه علي ما قال بهذا الصدد ويورد قصصا حدثت مع العائلة المالكة تؤيد نظريته. يتحدث عن العفاف فيقول إن العفاف يدخل في العرض, ويصف الفرنسيين بأنه تقل فيهم دناءة النفس, وأنها صفة مشتركة بينهم وبين العرب, وأنها مركوزة في طباعهم الشريفة. وأما الحرية التي تتطلبها الافرنج دائما فكانت من طباع العرب في قديم الزمان وأورد في ذلك قصة حدثت بين النعمان بن المنذر وكسري الذي وصف العرب في بلاطه بأحط الخصائص, فرد عليه النعمان: وأما العرب أيها الملك, فإن كثيرا فيهم, لعظم كرمهم ووفائهم ودينهم وحكمة ألسنتهم وسخاء نفوسهم يقولون: انهم ملوك بأجمعهم مع رفعتهم, فلا ينقاد أحد الي الآخر فإنهم أشراف. يختم شيخنا كتابه بشكر الوالي ومن ساعده في نجاح مقصوده من ترتيب أمور التلامذة وتعليمهم بمدينة باريس, ويخص بالذكر الخواجة جومار محب البلاد المصرية وأهلها, وأنه سعي بجد واجتهاد في تنفيذ المهمة التي أسندها له الوالي وكأنه من أبناء مصر البارين بها فهو جدير بأن ينظم في سلك المحبين, وذكر خطته الاستراتيجية التي قدمها الي محمد علي لتطور مصر ولخص ذلك في بضع أمور قدمها أهمها: الأمر الأول: الدلالة علي تقدم الحرف والصنائع اللازمة لمصر من أولها لآخرها. الأمر الثاني: تجارة أهالي أوروبا وآسيا وأفريقيا كقوافل أهل البربر ودارفور وسنار وبلاد الحجاز, ومقابلة الأكيسة والمكاييل المختلفة باختلاف البلاد المستعملة هي فيها. الأمر الثالث: ذكر أمور الزراعة فإنها كانت سببا في سالف الأعصر في غني أهل مصر, فلهذا ينبغي أن تكون أول ما تهتم به الدولةفي مملكة مصر الطيبة التربة والزراعة, وضرورة اصلاح المزارع والمروج المستحدثة وتتميم زراعة القطن والنيلة والعنب والزيتون والتوت واستخراج دقيق النيلة واستخراج أنواع كثيرة من الزيوت وعرفة تربية النحل ودود القز ودود الصباغة وتعهد الحيوانات الأهلية وتحسين الحيوانات البلدية بعزلها عن غيرها كالخيل والماعز وحيوانات الأصواف وجلب لبهائم من الخارج ومعرفة الطب البيطري وحفظ الحبوب من السوس وغرس الأشجار وترتيبها بحافات الطرق وخدمة البساتينوالخلجان المعدة لسقي الأراضي وللأسفار وكذلك الطرق والجسور والقناطر في السهول والجبال المعدة لتوصيل المياه. ما تجدر ملاحظته هنا أن محمد علي نفذ كل ذلك كما نعرف فيما بعد. ختم كتابه الخالد بقوله: وهذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالي في ذكر حوادث السفر لتلك الجهة التي لا ينكر معارفها الا من لا إنصاف عنده, ولا معرفة له... وعلي كل حال فأرجو ممن نظر فيه أن يتصفحه بجملته ليكون علي بصيرة مما يقول, فإن المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل منه, ولا أقول إلا كما قال الشاعر: فإليك وشيا حاكه في الطرس ذو باع قصير واستر اذا عيب بدا والله يعفو عن كثير يؤرخ لنا علي باشا مبارك في الصفحة54 من الجزء الثالث عشر من كتابه الخططالتوفيقية المنشور في مطبعة بولاق سنة1305 هجرية, وصول تلك البعثة الميمونة الاسكندرية, حيث كان في استقبالهم ابراهيم باشا أكبر أبناء محمد علي, والذي سأل الشيخ رفاعة عن بيت آبائه بطهطا بعد أن عرف أنه من ذريتهم, وكان لابراهيم باشا معرفة بهم ولهم به انتماء خاص, ووعده بإدامة الالتفات اليه واستمر ذلك الي أن توفي ابراهيم باشا, وقد أقطعه في خلال هذه المدة حديقة نادرة المثال في الخانقاه تبلغ36 فدانا. يقول علي باشا مبارك: توجه الشيخ رفاعة بعد الوصول الي الاسكندرية الي القاهرة فتشرف بمقابلة محمد علي باشا ورأي من ميله اليه ما حمله علي الثقة بنجاح المبدأ والنهاية وأنعم عليه ب250 فدانا ببلدته طهطا وعينه بأمره العالي مترجما في مدرسة الطب بطرا تحت رياسة ناظرها سكورا بك الفرنساوي فترجم كتبا عديدة, وفي أثناء ذلك حل وباء في القاهرة فسافر رفاعه الي بلده ثم رجع وقابل الجناب العالي بترجمة جزء ضخم من جغرافية ملطبرون ترجمه في تلك المدة فأنعم عليه بمبلغ جزيل من النقود ثم عرض للجناب العالي أن في امكانه أن يؤسس مدرسة ألسن يمكن أن ينتفع بها الوطن ويستغني عن الدخيل فأجابه الي ذلك ووجه به الي مكاتب الأقاليم لينتخب منها من التلامذة ما يتم به المشروع فأسس المدرسة وفي المدة المعينة امتحنت في اللغة الفرنساوية وفي غيرها فظهرت نجابة تلامذتها الذين ترجموا كثيرا من الكتب في مختلف العلوم والفنون, وكان لهذه المدرسة معلمون أفاضل. أجنبيون ووطنيون منهم محمد الدمنهوري ومحمد قطة العدوي وأحمد عبد الرحيم الطهطاوي وغيرهم, وكان مقر المدرسة بالأزبكية. يقول علي باشا مبارك: كانت له رحمة الله عليه عناية كبيرة باقتناء الكتب فاشتري الكثير النادر منها حتي أن كتبه تبلغ نحو4500 كتاب, ومات في السابع والعشرين من مايو1873. وحيث إنه لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي, فإنه لم يسلم الشيخ رفاعة وكتابه وآراؤه التنويرية من الأذي منذ نشره وحتي زماننا هذا. ربما كان نقد الأستاذ سالم مبارك في كتابه: اللغة العربية, التحديات والمواجهة,2011 هو الأقسي نقدا وتشويها حيث يقول: ذكيا نعم, نابها بين أقرانه نعم, محبا للعلم نعم, ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر... غريرا, طري العود, جاء من أقصي الصعيد حيث البؤس والضنك الي قلب باريس بحدائقها وميادينها ومباهجها. وتم تسليمه الي أخطر مستشرق وأدهاهم, انه البارون الفرنسي سلفستر دي ساسي, فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها, فتتألق معها مفاتن النساء, انتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضي في باريس6 سنوات, تعلم فيها الفرنسية, ودرس التاريخ, والجغرافيا, والفلسفة والآداب الفرنسية, وقرأ مؤلفات فولتير, وجان جاك روسو, ومونتسكيو, وتعلم فن العسكرية, والرياضيات. كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال الا أن تكون خطفا, وأن يكون ما ألفه سطوا علي كتب, حتي مدرسة الألسن التي أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن دربوه هناك, وهذه المدرسة أحدثت صدعا في ثقافة الأمة وقسمتها الي شطرين: الأزهر في ناحية, ومدرسة الألسن في ناحية, والوظائف طبعا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها يبدو أن الأستاذ سالم مبارك لم يكلف نفسه مشقة البحث قبل أن يقول هذا الكلام الجائر. الشيخ لم ينتزع من براثن الصعيد ليسافر مباشرة الي باريس, ولكنه قدم الي القاهرة وهو في السادسة عشرة وتخرج من الأزهر وقام بالتدريس فيه لمدة عامين, ثم التحق بالجيش المصري اماما, وهو ينتمي لعائلة ميسورة في طهطا بمحافظة سوهاج, وطبقا لما أورده علي باشا مبارك في الجزء الثالث عشر من الخطط التوفيقية هو سليل بشاوات فجده عبد اللطيف باشا, تم ترشيحه اماما للبعثة من قبل الشيخ العطار لنجابته وذكائه. ثم ان6 سنوات مدة كافية أن يتعلم فيها الانسان ما تعلم الشيخ رفاعة, وأي طالب في الجامعات الغربية والشرقية يمكنه أن يحصل علي دكتوراه في أقل من أربع سنوات. ثم انه قضي5 سنوات وليس.6 اذن كل هذا الكلام لا يستند الي أي حقيقة ويفتقر الي التوثيق والحقيقة. اضافة الي ذلك لم يتم تسليمه الي المستشرق سلفستر دي ساسي ولم يدرس له الرجل مطلقا ولكنه كان يعرفه وقرأ كتابه مراجعا ومقيما وأثني عليه. أما الأستاذ الذي أسند اليه تعليم الشيخ رفاعة فهو مسيو شواليه ولمدة ثلاث سنوات ونصف والذي قرأ معه اللغة الفرنسية وعلم الفلك والجغرافيا والتاريخ والحساب وغير ذلك وشهد بعبقريته.