في البداية كانت كتابات علي باشا مبارك عن النسوية بمفهومها الحديث قبل كتابات قاسم أمين وتحرير المرأة والمرأة الجديدة. وحتي قبل الكتابات النسوية الشرقيةوالغربية. سنري في هذه المراجعة أن علي باشا مبارك سبق الجميع في كتاباته عن النسوية في القرن التاسع عشر وأنه كان متبنيا حق النساء ومساواتهن في كل جوانب الحياة كما توضح لنا كتاباته الواضحة في موسوعته الأدبية علم الدين, مطبعة جريدة المحروسة بالإسكندرية1883, والتي تناولناها في الأعداد الثلاثة الأخيرة من جريدة الأهرام المسائي في المكان المخصص للكتب من أيام السبت. وسنري أن علي باشا مبارك خصص مسامرتين لذلك, الاولي هي المسامرة الثانية عشرة تحت عنوان( النساء). والثانية هي المسامرة السادسة والثمانون تحت عنوان( تعدد الزوجات). وأن كل مسامرة تعتبر كتابا كاملا قائما بذاته إضافة الي أنه في جميع حواراته الأخري في الكتاب مع زوجته والتي قام بتعليمها منذ أن تزوجها كل ما كان يعلم من المعارف المختلفة-كان متبنيا لمبدأ المساواة معها والتمكين لها والاستماع لرأيها- وأنها عندما اختلفت معه بشدة حول تفسيره للرزق واتهامه بالتقصير في محاولة البحث عن وسائل تحسين مستوي معيشتهم. رد عليها قائلا: وأي عمل خالفت فيه مقتضي العلم من أعمالي وأنت أعلم بجميع أقوالي وأفعالي. اما التعليم فليس لي اشتغال إلا به ولا تعلق إلا بسببه وتعليمك أنت أقوي دليل والله علي ما نقول وكيل. إشارته للتعليم هنا كوسيلة للتمكين. وأنه هو بنفسه الذي قام بتعليمها كل ما يعلم كما أشرنا في المراجعات الثلاث السابقة. وأنه يشير دائما الي ضرورة تعليم النساء كضرورة حياة وحق.قال الشيخ علم الدين لزوجته: وأي عمل خالفت فيه مقتضي العلم من أعمالي وأنت أعلم بجميع أقوالي وأفعالي, اما التعليم فليس لي اشتغال إلا به ولا تعلق إلا بسببه وتعليمك أنت أقوي دليل والله علي ما نقول وكيل. عندما تعرض الشيخ للاحتكاك بثقافة الغرب ورأي رأي العين تحرر المرأة الغربية عقب وصوله للفندق في الإسكندرية في بداية رحلته من القاهرة الي الإسكندرية ثم الي أوروبا. وتناوله الطعام في قاعته ومشاهدة اختلاط الجنسين نراه معجبا بما رأي رغم عدم تعوده رؤية ذلك ونلحظ في أقواله ردة فعله بلا حساسية أو موانع أو نقد لاذع أو نفور من ثقافة الآخر.كانت وكأنها صدمة ثقافية له. وكانت أيضا إضافة إنسانية لفكره ومعرفة للآخر. وصفها بما يقرب من الإعجاب الشديد والرابطة الإنسانية الأساسية المشتركة: .. وكان ممن حضر علي المائدة بالقرب من الشيخ شابة طليانية تعرف اللغة العربية وغيرها فكانت تارة تتكلم بها وتارة تتكلم بلغتها أوغيرها من اللغات الأجنبية علي حسب لغات الحاضرين وكانت بديعة الجمال نادرة المثال ظريفة الشمائل ثابتة الجأش فصيحة اللسان لا تقتصر في كلامها علي الألفاظ العادية بل تأتي بمحاسن الألفاظ اللطيفة والنكات الظريفة وتدخل مع الرجال في المباحث العلمية والسياسية مع صغر سنها فتعجب الشيخ من ذلك واستغرب حالها لكونه لم يعهد في نساء البلاد المشرقية أمثالها فإنه يراهن دائما عن الرجال بمعزل ولا شيء عليهن سوي خدمة المنزل ولا يتكلمن إلا مع أزواجهن وذوي قرابتهن وإذا تكلمن مع الرجال يتكلمن بخجل واستحياء بخلاف ما رآه في الطليانية ومن معها من النساء إذ لم يجد بينهن وبين الرجال فرقا في المخاطبة والمجاوبة والمحاورة والمسامرة. يستمر الشيخ في وصفه ما لم يره من قبل بتفكير ونظر:.. كان الخادم يبدأ في تقديم الطعام بهن قبل الرجال وإذا طلبن شيئا بادر بتقديمه إليهن من كان قريبا منهن لا فرق بين صديق وغريب وأجنبي وقريب فالكل محتفل بإكرامهن كل الاحتفال ولا يأتي إلا بما يسرهن من الأقوال والأفعال هذه الكلمات من وصف الشيخ علم الدين وردت في مسامرة بعنوان الخانات واللوكندات لما رآه يحدث علي مائدة طعام الأجانب في الإسكندرية ومشاهدته أنه أمر عادي ومقارنته بحال النساء في مصر وعدالته في الوصف وكون المرأة متساوية مع الرجل في كل شيء وأن التعليم جعلها تفوق من حولها من الرجال والنساء. وانه لا يجب أن ينظر إليها خارج قدراتها وإنسانيتها. في بداية مسامرة بعنوان النساء يقول الناشر الإنجليزي موجها كلامه للشيخ علم الدين المرافق له: قد اطلع سيدنا في هذه اللحظة اليسيرة علي كثير من عاداتنا وأحوالنا ولا بد أنه أدار نظره وأجال فكره في المقارنة بينها وبين عادات هذه البلاد وتأمل فيها تأمل اعتبار وانتقاد فمن أجل هذه الفائدة قد رغبت في حضوره هذه المائدة. يرد شيخنا المعتدل المستنير علي هذا السؤال بقوله: نعم كنت أتأمل فيما أراه من الأحوال لا سيما في اختلاط النساء مع الرجال فوجدت في اختلاطهن فوائد لهن من حيث أنهن يتلذذن بما يرينه ويعلمنه من الحوادث والأخبار وما يطلعن عليه من محاورات الرجال. ثم استمر الشيخ في الحديث عن الاختلاط ومشاكله وأن كثرته قد تأتي بعواقب وخيمة وأن عادات المشرقيين أرجح في هذا المضمار...وأن الصيانة في التربية بين الأهل والأقارب وأن حسن التربية يرشدها لما يجب عليها من الفروض ويكسوها حلل المروءة اللائقة بها وبزوجها وأقاربها فكما لا يكتفي بمجرد العلم مع الحرية كذلك لا يكتفي بمجرد العزل مع الجهل بل لا بد في كلا الحالين من حسن التربية في البداية لأن حسن التربية يهذب عقل الإنسان ويصفي طباعه ويعوده علي الفضائل ويبعده عن الرذائل فهو زمام ذلك كله والقاطع لعرق الشبهة من أصله. ويستمر الشيخ في شرحه لأحوال النساء في الجاهلية وفي الإسلام: وإذا تتبعنا القرآن العظيم لم نجده يذكر المؤمنين إلا ومعهم المؤمنات ولا المسلمين إلا ومعهم المسلمات ولا الصائمين إلا ومعهم الصائمات قال تعالي( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا). وقال تعالي( من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). وقال تعالي:( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين لفروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما). واستمر في تفنيده للرجل الإنجليزي:.. وهكذا في غير ما آية وإن أردت أن أطلعك علي مواضع ذلك من المصحف الشريف لتقف علي الحقيقة بنفسك فعلت فالكتاب والسنة والإجماع علي أن للنساء ما للرجال من الثواب وعليهن ما عليهم من العقاب لا فرق بين حر ورقيق ومولي وعتيق. قال الإنجليزي معقبا علي شرح الشيخ المستفيض المستنير: لوعلمت نساء أوروبا بقولك لأحببن دين الإسلام لكن ربما يمنعهن شيء آخر أشق عليهن من كل شيء وأضر وهو اتخاذ الرجل منكم عددا من الزوجات. تبسم الشيخ وأجاب بعلم أن ما كان من أمر تعدد الزوجات فليس هذا خاصا بالإسلام فقط بل هو عام للمسلمين وغيرهم... فقد رأيت في بعض كتب التواريخ نقلا عن دانيال القسيس أن ملوك فرنسا الأولين كانوا متزوجين بزوجات متعددة مع أنهم كانوا متدينين بدين النصرانية ومن ثم كان لكل من غنطران وشربير وداغوبير الأول ثلاث زوجات ولعم داغوبير وهو قلودومير أربع زوجات في آن واحد وفي سنة سبعمائة وستة وعشرين من الميلاد كتب البابا غراغوار بدسفاس حين أرسل إليه يسأله عن جواز التزوج بامرأة ثانية إذا أصيبت المرأة بداء يمنعها عن القيام بحقوق الزوج جاز له أن يتزوج بامرأة أخري وعليه للمصابة مؤنها الضرورية. ويستمر الشيخ في إجابته أن الحكمة في إباحة تعدد الزوجات عند المسلمين وعند من كان علي رأيهم أن التدبير الإلهي قد يكون مرده لما ميز الرجل بقوة البنية وطول زمن التناسل بالنسبة للمرأة وسلامته من الأعذار المعتادة للنساء في أوقات معينة كالحيض والنفاس راعي الشرع جانبه لذلك. وقال موجها كلامه للإنجليزي: وأما حكمة الإفراد التي عولتم عليها واستندتم في الحكم إليها فلا يمكن الجزم بإطرادها في كل طبيعة ولا بأنها لقطع ما تخشونه من المفاسد ذريعة فقد يأتي زمن يمتنع فيه كثير من الأمور الفظيعة التي لا وجود لها في بلادنا كقتل الأطفال وإسقاط الأجنة ونحو ذلك, عندها قال الإنجليزي: هذا كلام معقول لكني نظرت في المصحف مرة فرأيت في سورة البقرة ما ظاهره الأمر بضرب النساء مع أنه يخل بشرف الإنسانية. أجاب الشيخ باستفاضة علي ذلك السؤال المحير الذي يطرحه الكثيرون أن هذا لا يوجد إلا إذا علم الزوج منها خلاف ما كان يعهد علي أنه ليس له ذلك من أول الأمر بل يستعمل معها النصيحة فإن أبت فبالهجر فإن أبت ضربها بشرط أن لا يضر بها علي أن حسن العشرة المأمور به في القرآن ربما جعل التشديد عليهن مذموما وصير من عاقبهن علي كل ما فرط منهن ملوما كقوله تعالي( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان). وكقوله صلي الله عليه وسلم احملوا النساء علي أخلاقهن. قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينبغي للرجل أن يكون في بيته كالصبي فإذا طلب وجد رجلا وقال بعض الصحابة للنبي صلي الله عليه وسلم: ما حق زوجة أحدنا عليه؟: قال أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت. ومعني لا تقبح لا تسمعها المكروه ولا تشتمها ولا تقول لها قبحك الله ونحو ذلك الي غير ذلك مما يعظم أمر النساء ويوجب رعايتهن والمبادرة الي القيام بحقوقهن. وعند وصولهم إلي باريس تمت دعوة الشيخ وابنه برهان الدين الي زيارة أسرة فرنسية حيث كان في استقبالهما صاحب المنزل وثلاثة من أرباب الجمعية المشرقية كلهم يتكلمون بالعربية وغيرها من اللغات المشرقية وكذلك صاحبة المنزل مع اثنتين من النساء الحسان فلما قرب صاحب المنزل من المجلس عرف الحاضرون بدرجة الشيخ في المعارف وغزارة مادته في العلوم وفصاحته في العربية فقاموا له وأجلوه وأجلسوه وسطهم وآنسوه وجلست صاحبة المنزل عن يمينه فصارت تحييه بأحسن ما عندها من التحيات ويترجم أحد الحاضرين للشيخ تحياتها. وكان مطمح نظر الحاضرين الي إبنه برهان الدين الشاب المصاحب له في السفرلكونه كان أكثر حياء من والده حسن المظهر كثير الصمت فأعجب صاحبة المنزل أدبه وكماله فكان أغلب حديثها معه وكان الإنجليزي قريبا منهم فكان هو المترجم لكليهما ولما حضر الطعام أجلسته عن يمينها والشيخ بينها وبين زوجها ثم أخذوا يتناولون الطعام ويتجاذبون أطراف الكلام ويتساءلون حتي رفع الطعام ودار بينهم الحديث في كل قديم وحديث بخصوص مصر وما احتوت عليه من المحاسن قديما وفي هذا العصر وخصوبة أرضها واعتدال قطرها وصفاء هوائها. عقب العشاء والحديث انصرف الشيخ وولده الي محل إقامتهما في باريس وناما حتي الصباح فلما استيقظ الشيخ دخل عليه ولده وجلس بجانبه ثم قال له والده: قد آنسنا أهل مجلس الليلة فإنهم أذكياء ظرفاء وأظن أنك كنت في غاية الأنس بصاحبة المنزل فإني ما رأيتها فارقتك ولا رأيتك مللت حديثها وكنت أحيانا تحدق النظر نحو صواحباتها وهن كذلك فغض برهان طرفه وتبسم وأطرق رأسه ولم يتكلم. فقال له والده: ما الذي دار عليه حديثكم. لا بد أن تخبرني بما جري بينكم؟. فقال برهان الدين: سألتني صاحبة المنزل عن حال النساء عندنا وعن والدتي وإخوتي فأجبتها بما يليق ثم سألتني أمتزوج أم لا وهل والدك معه غير أمك أم لا؟. قلت لها أما أنا فلم أتزوج وأما والدي فليس معه غير والدتي ولم يتزوج بغيرها. فقالت وكيف ذلك مع أن المشرقيين يحبون تعدد النساء؟. فقلت لها كثير من المسلمين لا يتزوجون بغير واحدة وليس التعدد محتما عليهم وإنما قد تعرض علي الإنسان أسباب تلجئه الي أن يعدد نساءه والشرع عندنا لا يمنع الزواج بأربع. فقالت الجميلة منهن البديعة بينهن: ليس للإنسان إلا قلب واحد فلا يهوي غير شيء واحد وكيف يقسم بين اثنتين؟. فقلت لها: دوام الحال من المحال فإنه لا حيلة ولا خلاص لو تعلق قلب إنسان بذات من الذوات وألفها أشد ما يكون من الألفة وتولع بها وهام فلا تثبت له هذه الصفة علي الدوام بل متي انقضت مدة التعلق قصيرة كانت أو طويلة وتخلي القلب عما علق به سكن غيره فيه ولو تأملنا لوجدنا هذه الحالة لدي كل الناس لا تخص جهة دون أخري ولا خلقا دون آخرين ففي قانون شرعنا لو وجد الرجل بقلبه كراهة لزوجته يسوغ له فراقها وكذلك هي تطلب منه ان يفارقها ويتخلص كل من ألم الكراهية وأما عندكم فلا حيلة ولا خلاص لأحد الزوجين من صاحبه تحابا أو تبغاضا فتبسمت صاحبة المنزل من قولي وقالت لمن تحادثني قد ألزمك المصري الحجة فخجلت ولم تتكلم بعد ذلك. وحكي برهان بقية الحديث لوالده.