تصفحت الكتاب فوجدته نزهة للناظر وسلوة للخاطر فيه للقلوب ارتياح وللخواطر نشاط وانشراح تعرب مبانيه عن لطف معانيه وتفصح روائع ألفاظه الرائقة عن بدائع مضامينه الفائقة ويشهد لمؤلفه بعلو المقدار وحسن الاختيار جمع فيه من غرائب الفنون ونقائض الجد والمجون الضب والنون وقرن الي أسني المقاصد أشرف المطالب فصح أنه المرغوب لكل طالب أظهر فيه ما خفي من أسرار الصنائع وكشف عن وجه مخدرات العلوم البراقع وأضاف الي ذلك من حكم الحكماء ما أغفلته القدماء ووشحه بلطائف النوادر وما تفردت به الأواخر وأظهرته في هذا الدور الآخر فهو مخترع لجميع المخترعات جامع وبديع في بيان معاني المبتدعات نافع ينتقل من فصل الي ضده ويحكم الوصل بما أبداه من عنده هذه الجمل من تقريظ كتاب علي باشا مبارك علم الدين كتبه عبد الجليل بن عبد السلام, ووصف فيه الكتاب ومؤلفه بصفة عامة. الكتاب عمل موسوعي علي شكل رواية وكتاب رحلات وكتاب علم وحكم وفلسفة ونوادر وأنه جمع فحوي. الكتاب نشر عام1883 وطبع في مطبعة جريدة المحروسة بالإسكندرية ويقع في1490 صفحة وأربعة أجزاء تحوي125 مسامرة نسبت للشيخ علم الدين روايتها. تحكي المسامرات الأربع الأولي بداية رواية وحياة علم الدين, وأن نشأته الأولي كانت ريفية, حيث حفظ القرآن وتعلم أساسيات الحياة علي يدي والده الذي كان يحفظ القرآن في القرية ويؤم أهلها في الصلاة. كان لوالده طموحات في علم الدين, ولذلك قرر أن يرسله للأزهر ليكمل فيه تعليمه ولينهل من منابعه. وقد رأينا في عدد السبت الماضي من الأهرام المسائي والده وهو يودعه لتلقي العلم بالقاهرة ويوصيه بعشروصايا يجب علي كل طالب العلم الالتزام بها والتحلي بها. تحكي لنا تلك المسامرات الأربع لوعة فراق علم الدين لأهله, وتسجل وصف صدمته الثقافية في أيامه الأولي عندما رأي القاهرة وعظمتها وأحوالها حينها, وإستكشافاته لها وصعوبة الحياه ووحدته وانكبابه علي الدراسة. ظل علم الدين عاكفا علي دروسه بالأزهرمظهرا نبوغا ومتمتعا بمحبة مشايخه وأساتذته له وتشجيعهم له. ولم تمض إلا سنوات قليلة جاءه بعدها الخبر بموت أبيه فسافر الي بلدته وباع كل ماتركه وخلفه الوالد وبلغت قيمته أربعة جنيهات ثم أخذ معه أخواته البنات الثلاث الصغيرات رغم رغبة أهل القرية أن يبقي بها ويرث منصب تحفيظ القرآن لأطفال القرية والإمامة في الصلاة لأهلها مثلما كان يعمل أبوه إضافة الي عرضهم عليه أنهم سوف يطلبون من السلطات تعيينه قاضيا شرعيا للبلدة, لكنه رفض كل المغريات وسافر مع أخواته الي القاهرة واستأجر لهن بيتا بالقرب من الأزهرليتمكن من مواصلة دراسته ورعايتهن. وظلوا علي ذلك أربع سنوات وهو خلالها يكمل دراسته بالأزهر ويعمل ليعول أخواته البنات. بعدها فكر في الزواج رغم فقره وقلة حيلته بعد أن أدرك أن ذلك سيعينه علي تحصيل العلم ويساعده أيضا في تربية أخواته الصغيرات. وعقد العزم وتم زواجه من بكر فقيرة رضيت واقتنعت به وكانت نعم العون له في دراسته وتربية أخواته وتعليمهن ما كانت تعلمه من فنون الخياطة والتطريز وكب الحرير وليكن زوجات مفيدات صالحات في المستقبل, وعندما وجد علم الدين أن لديها رغبة شديدة وميلا في تعلم العلم, صار يلقنها قواعد الدين شيئا فشيئا ويعلمها الكتابة فكتبت وحفظت القرآن, وتعلمت من العقائد ما تحتاج إليه, وعلمها العلوم الأدبية والفقه والحديث والتفسير والآثار وقصص المتقدمين والأخبار الي غير ذلك من المعقول والمنقول حتي جارته في كل مضمار وأخذت معه في أودية العلم حيثما سار ولم تزل سالكة طريق السداد حتي رزقهم الله بأربعة من الأولاد مما جعلهم يحيون حياة فقيرة قاسية ملئها الحرمان. المسامرة الخامسة هي أطول مسامرة في الكتاب بعنوان محاورة وتقع في36 صفحة, وتكاد تكون كتابا كاملا يوضح العلاقة بين العلم والرزق وكذلك العلاقة بين الجهل والعلم والغني والفقروالريف والحضر. جعلها علي باشا مبارك حديثا عن الرزق بين علم الدين وزوجته التي نفد صبرها من قلة راتبه الذي يتقاضاه من تعليمه طلاب الأزهر وقسوة الحياة وزيادة المطالب والاحتياجات لتلك الأسرة الكبيرة. كانت أيضا بين شخصين علي درجة عالية من الإحساس بالمساواة والتكافؤ والعلم, ملأها علي مبارك بالحكم والأمثال من ثقافات الغرب والشرق: العاقل حبيب نفسه ومن كان حبيب نفسه كان حبيب ربه وذلك لأن من عرف نفسه عرف ربه والجاهل عدو نفسه وربه, يتفاوت الناس في الآراء والأنظار والأقوال والأفكار فيري الواحد منهم بفضله وتجربته ما يخفي علي غيره لجهله وقلة خبرته. ولولا ذلك لتساوي الفضلاء والجهلاء واتفقت الآراء والأهواء, المتشبث بالأكل طالب من مولاه بلسان حاله وفعله إفاضة الشبع والمتشبث بالشرب طالب كذلك للري والمصطلي طالب للدفء وهكذا الآخذ في أسباب الرزق طالب للرزق والله سبحانه جواد كريم فياض مطلق لا بخل عنده ولا ضيق فيما لديه فهو يفيض علي كل أحد ما طلبه بلسان حاله وفعله الذي لا يدخله ما يدخل لسان القول من الكذب, العلم كالشجرة فكما أن الشجرة زينتها ثمرها كذلك العلم زينته العمل به وتعليمه, إراقة ماء الوجه لا يرضي بها إلا جاهل, الريح العاصف إذا اقتلعت الشجرة والمدرة والصخرة فلا تقتلع الجبل الراسخ ولا تزحزحه عن مكانه, تعليمك المحتاجين أشد الاحتياج للأمور الضرورية من دينهم أولي وأقرب الي الله وأكثر ثوابا مما تقضي فيه عمرك وتشغل به أوقاتك من البحث والجدال والقيل والقال والجواب والسؤال والحل والإشكال, العاقل من اقتدي بأهل حرفته وأمثاله وخرقته, الناس جميعا غنيهم وفقيرهم محتاجون لبعضهم وربما كان احتياج الغني الي الفقير أكثر من احتياج الفقير إليه. لأن الغني يغلب عليه حب العظمة والترفع والترف فلا يشتغل إلا بالأمور المهمة الكلية ويكل أموره الجزئية لحقارتها الي غيره فيحتاج للفقير ليقوم له بها ثم إن كان ذلك الغني صاحب مروءة ومعروف انقطع الفقير إليه ولازمه, امتحنت جميع الوظائف وأصحابها واختبرت حالهم مع رؤسائها ونظارها فلم أجد وظيفة عارية عن الذل والإهانة, لا يخفي أن ألم العزل أضعاف لذة المناصب, فكما يموت الفقير يموت الغني ولو تأملنا حال كل منهما في الدنيا لرضينا بالفقر فإن الغني في الدنيا دائما في معاناة ولا يدخل منزله إلا وفكره مشغول قد آلمه السقم وألم به النحول فيبيت سمير الأرق نديم الوهم والقلق, ليست العزلة مجرد حبس الأجسام كما أن الصوم ليس مجرد الامتناع من الشراب والطعام وإلا كانت متحققة في أهل السجن والجرائم العظام, مثل صاحب العلم مثل رئيس الجيش هذا يفتح القلاع بخيله ورجله وذاك يملك القلوب برأيه وقوله ورئيس الجيش. وإن كان يكشف عن مكنون القلاع فالعالم يكشف عن الطباع ويغوص بحار أسرار المخلوقات ويستخرج ما استتر من عجائب المصنوعات فكما يستولي رئيس الجيش علي الممالك بقوته فكذلك العالم يجذب القلوب بنور بصيرته, الخلق مفتقرة الي العلم في سائر البلاد كافتقار الظمآن الي الماء والمسافر الي الزاد لأنه لا دوام للملك إلا بحسن التدبير ولا تدبير إلا بالعلم.. فأمور الدنيا لا تنتظم إلا بالعلم والعالم بالنسبة للعلم كاللسان بالنسبة لصاحبه فكما أن اللسان يترجم عما في القلب إذ لولاه ما علم أحد ما في ضمير الآخر فكذلك العالم يفصح عن حقائق المعلومات وغرائبها ولا يحملها علي غير ما أريد بها تبدأ المسامرة الخامسة بدعاء روحي جميل عندما سأل الشيخ علم الدين زوجه عن أسباب تضجرها وقلقها الذي أصبح قرينا ملازما لها طيلة الوقت, فأجابته: أستغفر الله لي ولك وأسأله أن يصلح عملي وعملك وينجح أملي وأملك وأقول لك الحق وإمحضك الصدق ان البكاء الذي عراني والنحول الذي اعتراني ليس لك فيه سبب وإنما هي أمور جلبتها الي نفسي وخواطر أذهبت راحة عيشي وانسي فقال وكيف ذلك؟ قالت نظرت لفقر حالنا وكثرة عيالنا فأسفت من ضيق عيشهم في حياتنا وخفت من سوء حالهم بعد مماتنا وذهلت عن قول الله تعالي( وما من دابة إلا علي الله رزقها) فهذا الذي أجري عبرتي وأضرم نار لوعتي وأرجوك أن لا تؤاخذني في ذلك في هذه المسامرة نجد أن زوجته كثيرة التعبير عما يجيش بنفسها وتتحدث بحرية وثقة بعما يجول بخاطرها, ونجد أيضا حوارا عميقا بين الزوجين المتكافئين جديرا بالتأمل وخصوصا في تلك الفترة الزمنية, قال الشيخ: أراك قد سقت الكلام الي حد أردت به توجيه الملامة علي واتهامي بالتقصير في الطلب وأن ما نحن فيه من قلة المال وضيق الحال إنما هو من تقصيري في الأخذ بالأسباب. قالت الزوجة مجيبة: ينبغي أن لا يكون في هذا ارتياب وها أنت قد حصلت من العلم ما تعلقت به آمالك ووصلت فيه ما لم يصل إليه أمثالك وأنت الآن بحمد الله في صحة من جسمك وقوة من عقلك فماذا عليك لو أخذت لنا فيما يكون فيه حسن الحال وراحة البال من الرزق الحلال ففي علمك أن للعبد ذنوبا لا يكفرها صلاة ولا صوم ويكفرها السعي علي العيال. رد الشيخ: ومتي قصرت في الطلب؟ وكيف لنا تحصيل الإرب. فقالت: طرق الوصول الي الرزق غير محصورة وأسبابه غير محظورة فمنها ما يوصل الي قليله ومنها ما يوصل الي كثيره علي حسب تفاوت الناس واختلاف درجاتهم وتباين حالاتهم وإنما الصعوبة في معرفة أحسن الطرق الموصلة إليه بالنسبة للشخص والاهتداء لسلوكها فإن الإنسان في حال صغره الذي هو وقت تعلمه لا يتأتي له معرفة ذلك لضعف قوته العقلية كقوته الجسمية فهو إذ ذاك كل علي أهله مضطر للانقياد لهم واتباع آرائهم فيوجهونه الي ما يوجهونه إليه مما يرونه نافعا له. وهو لا يدري أفي ذلك خير له أم شر,وعاقبته نفع أم ضر فإذا ترعرع وكبر وبلغ أشده وملك زمام أمره وأخذ يحكم عقله في التمييز بين ما هو نافع له أو أنفع وضار أو أضر والترجيح بين ذلك والاختيار لما يراه خيرا له فحينئذ اما ما يوافق رأيه رأي أهله فيما أرادوه له وأخذوه بسلوك سبيله أويختلف الرأي فإن خالف رأيه رأي أهله فيما أرادوه له وأخذوه بسلوك سبيله أو يختلف الرأي وتستمر الزوجة في شرح رأيها المخالف لرأي زوجها في صفحات طوال بحرية وعمق وفلسفة لم نعهدها في أي كتابة أخري في القرن التاسع عشرموضحة أن مهنة التدريس لا تحقق غني وتورث الفقر وأن المهن الأخري أفضل لتحقيق حياة أفضل, ويرد عليها الشيخ معقبا: أنا بحمد الله لم أترك تعليم العلم من حين وجدت في نفسي القدرة علي ذلك فإني مواظب علي التدريس في الجامع الأزهر لطلبة العلم مجتهد في تعليمهم علي قدر الاستطاعة ويستمر الحوار المطول بين الزوجين عبر المسامرة كلها حول الرزق والعلم والتعلم وكيفية اختلاف تلقيه بين المدن والحضر, ونلاحظ أن الزوجة كانت تتكلم بحرية مطلقة وتختلف مع زوجها كثيرا في وجهات النظر, وإن كانت تعتذر أحيانا علي ما تقول: لم يكن ما ارتكبت من إطالة المقالة قصدا الي تفهيمك فإن كل ما عندي ليس إلا من ثمرات تعليمك ولكني لما سألت ذلك السؤال وأوردت ما أوردت من الأشكال خفت أن يتطرق إليك سوء الظن في اعتقادي فأردت أن أعرفك بحقيقة ما انطوي عليه فؤادي ولهذا أطنبت فيما قررت ورجع حاصل ما ذكرت الي خمسة أمور: الأول أني أعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره والثاني أن أفعال الله لا تخلو من حكمة وسر والثالث أن العقول البشرية لا يتأتي لها الإحاطة بجميع حكم الله وإنما يمكن لها الوصول الي بعضها. والرابع حكم الله منها ما لاتصل إليه عقولنا ومنها ما هو غاية الوضوح. الخامس إذا لم يظهر لنا السر والحكمة من أول وهلة فلا نقطع باليأس منه بل ننظر فيه. وتستمر الزوجة في محادثتها المطولة وتقول: إن الله لما رزق العلماء ما رزقهم من كمال العقل والمعرفة والفضل جعل للجهلاء في مقابلة ذلك ما منحهم من رغد العيش وسعة المال وكثرة الغني فكان الغني للجاهل في مقابلة الفضل للفاضل لتعتدل القسمة ويتساوي القريقان في الحكمة ولذلك قالوا ذكاء المرء محسوب عليه.. ومنها ما يحكي عن بزرجمهر أنه قال وكل الله الحرمان بالعقل والرزق بالجهل ليعلم أن لو كان الرزق بالحيلة لكان العاقل أعلم بوجوه مطلبه والاحتيال بمكسبه فدل علي أن الأمور تجري بقضائه وقدرته لا بصنع ابن آدم وفكرته وتستطرد في حكمتها واعتراضها واختلاف وجهة نظرها مع زوجها: أن العلم ليس من أسباب الفقر ولا الجهل من أسباب الغني وأنه لا توجد ملازمة بين هذه الأمور بل القضية علي العكس والعلم أحد موجبات الغني والسعة والجهل أحد أسباب الفقر والضعة وأن أهل العلم ممن لا مال عندهم قصروا جل أفكارهم وعلقوا منتهي أنظارهم علي العلم والتشبث بوجوه تحصيله وكان ذلك طلبا له واستدعاء لإفاضته أفيض عليهم كما أن من لا علم عندهم من أهل الغني لما سعوا في تحصيل المال وأخذوا بأسبابه وكدوا في طلبه أفيض عليهم ذلك. نعم قد يرزق القاعد ويحرم الساعي المجد لأسباب وأسرار وحكم قد تعلم وقد لا تعلم إلا أن كلامنا في العموميات لا في الخصوصيات والجزيئات. رواية علي باشا مبارك ذات الأجزاء الأربع جديرة بأن تسمي: رباعية علي باشا مبارك, علي غرار ثلاثية نجيب محفوظ.