لم يكن النبي صلي الله عليه وسلم فقيراً كما يظن البعض، إذ لا توجد نصوص تشجع علي الفقر، أو تعتبر الفقير أفضل من الغني عند الله، وكل ما هو منسوب إلي نبينا الكريم يتعلق بظروف طارئة عاشها في حياته، كما حصل خلال فترة سنوات الحصار الثلاث في «شعب أبي طالب»، بعد أن قطع كفار قريش الطعام عنه، ومن معه من بني هاشم، وبعد الهجرة، وفي فترات طارئة أخري، وفي أوقات مخصوصة، لكنه كان في معظم الأحوال غنياً وميسوراً، وامتلك أموالاً كثيرة، سواء في مكة أو في المدينة. وفي أوقات الأزمات التي اضطر خلالها إلي ربط حجر علي بطنه من شدة الجوع، ومنها أنه كان يمر الهلال (الشهر) ثم الهلال ولم يوقد في بيت النبي نار، كان يتعامل معها علي أنها «ظرف استثنائي»، مثلما قد يتعرض أي إنسان في حياته لأزمة يعاني خلالها شظف العيش، أو تقل فيه موارد دخله لسبب طارئ، فلم يحث مطلقاً علي ثقافة الفقر، بل إنه كان كريماً معطاءً، كان يعطي عطاء من لا يخشي الفقر، أطلق طاقات جيل فتحوا الأرض بنفسية تمجد إعمار الأرض وليس بنفسيه تمجد الفقر. فلا عجب إذن أن يروي عن سول الله « كاد الفقر أن يكون كفرًا» رواه البيهقيُّ في الشعب. وقد دعا لخادمه أنس بالغني: «اللهم كثر ماله وولده « فلم يمت إلا وهو من الأغنياء، وكان يدعو لنفسه: «اللهم إني أسألك الهدي والتقي والعفاف والغني» هو في ذاته تعليم لأصحابه ولنا أن الغني من المقاصد التي ينبغي أن ندعو بها ولا عيب في ذلك. ثم انظر إلي قوله: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» فهو تأكيد علي هوية العبد الصالح الذي يسعي إلي جمع المال الصالح الحلال. فالحديث يجمع بين صلاح العبد وصلاح المال علي صعيد واضح. وفي موضع آخر يحذر من عدم الإنفاق علي الأهل والعيال ويعتبره من الآثام الكبار، يقول: «كفي بالمرء إثما أن يضيع من يعول». فطلب الغني والسعة في الرزق صفة من صفات الأنبياء، وانظر مثلاً إلي سليمان عليه السلام، الذي يطلب ملكا لم يؤته أحد من بعده: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ». والمُلك الواسع أحد مظاهر الغني والسعة. يقول الشيخ محمد الغزالي: «إن أعدادًا كبيرة من المسلمين زعموا أن الرسول آثر الفقر علي الغني، ودعا إلي الفقر، وبهذه الفلسفة الجبانة نشروا الفقر في الأمة الإسلامية عدة قرون». إن الدليل القرآني واضح علي غني النبي الكريم، كما في سورة الضحي: «ووجدك عائلاً فأغني»، فقد قال تعالي: «عائلاً» ولم يقل: «فقيراً»، والعائل في اللغة هو كثير العيال. لقد أظهر الله فضله علي نبيه بأنه أغناه والغني هنا مادي.لأنه ربطه بشيء ماديٍّ آخر هو أنه عائل أي كثير العيال. وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَي وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَي منَّ عليه بالغني كما منَّ عليه بالهدي، فلو كان الفقر أفضل من الغني لم يكن للامتنان معني وفائدة. ولا يعد حديث «الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بسبعين عاماً»، دليلاً علي أفضلية الفقراء عند الله كما قد يفهم البعض، إذ إن الحديث يوضح أن حساب الغني يوم القيامة غير حساب الفقير، فالأخير ليس لديه ما يستوجب طول الحساب لفقره، أما الغني فحسابه أطول لتعدد مصادر أمواله لحديث النبي:» لا تزولُ قدَمَا عبد يومَ القيامة، حتي يُسألَ عن أربع :... وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه»؟ صحيح أن الله قادر أن يحاسب جميع عباده في لحظة واحدة، لكن الهدف هو إيقاظ حس الغني بأنه سيحاسب علي كل مال دخل جيبك: من أين وإلي أين؟، وهذا بلا شك يساعد الغني أن يتقي الله في ماله عندما يعلم أنه سيحاسب هكذا، لكن في النهاية فإن الغني الذي أحسن التعامل مع ماله قد يكون أعلي منزلة في الجنة من الفقير حتي لو كان الفقير دخل قبله إلي الجنة، والدليل علي ذلك واضح وضوح الشمس من حديث صحيح آخر للنبي يقول فيه: «إن الغني الشاكر أحب إلي الله من الفقير الصابر». كان النبي ينفق علي 9 زوجات مهورهن وكسوتهن وطعامهن بل كان كما جاء في الحديث يدخر لأهله قوت سنة كاملة، أي كان يوفر في بداية كل سنة ميزانية السنة بالكامل، وقد اشتري أرض المسجد، وأقام بيته علي جزء من تلك الأرض، وخصص لكل زوجة من زوجاته داراً لها، ثم إن الزواج بهذا العدد من النِّساء وما يتبع الزواج من التكاليف والصداق والإنفاق علي هذا العدد من البيوت والنِّساء لا يطيقه إلَا ذو سَعَة، وكان الصداق في عهده يصل إلي أربعمائة درهم، وصداقه لزوجاته زاد عن ذلك. كان النبي كريماً كثير العطاء حتي قال عنه ابن عباس «كان رسول الله جواداً وكان أجود ما يكون في رمضان فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة»، كان يتولي الإنفاق علي أهل الصفة وإطعامه لهم من ماله وهم فقراء المهاجرين الذين هاجروا من مكة للمدينة، وليس لهم عمل أو مأوي وكان عددهم يصل إلي 70صحابيًّا. كما كان ينفق علي ضيوفه من الوفود التي كانت تأتيه والتي يزيد عددها علي سبعين وفداً في عام الوفود، فضلاً عن إنفاقه علي خدمه ومواليه، لنخلص من ذلك إلي أن النبي لم يكن فقيراً ولم يشجع مطلقاً علي أن يكون الإنسان فقيراً، أو أن يكون عالة علي غيره.