جعلوني قارئا جاءنا من صاحب العزة الدكتور طه حسين بك أنه يعلن آسفا أن ادارة الكاتب المصري قررت وقف مجلتها الكاتب المصري لأسباب لا تتصل بمحرريها ولا بقرائها, وأنه يشكر أخلص الشكر وأصدقه لزملائه معونتهم ولقرائه حسن إقبالهم علي المجلة, ويرجو أن يلقي أولئك وهؤلاء قريبا في ميدان آخر ان شاء الله هذا نص بيان الدكتور طه حسين الذي نشرته الأهرام في5 مايو1948, بخصوص ايقاف صدور مجلة الكاتب المصري والتي صدر العدد الأول منها أول أكتوبر1945, وأصبحت بعده تنشر شهريا حتي أول مايو.1948 أي أن جملة ماصدر منها كان32 عددا في ثمانية مجلدات. لو أتيح لك قراءة هذه المجلة والتمعن فيها, أيا كانت ثقافتك, ثم قرأت كلمات طه حسين تلك, لأصبت بالفجيعة واعتراك نوع من الاحساس يشبه احساس من فقد عزيزا غاليا في ريعان شبابه. كانت المجلة مختلفة فيما تقدمه, سابقة لعصرها وللجميع وبطريقة لم تعهدها المجلات الشهيرة المهمة الأخري. كانت موضوعاتها تشمل الدراسات الأدبية والدراسات الفلسفية والدراسات الاجتماعية والاقتصادية والدراسات التاريخية والدراسات السياسية والدراسات الفنية والدراسات العلمية والقصص والكتب المعربة والشعر وتقديم دراسات شهرية عن السياسة الدولية والمسرح والعلم والسينما والاجتماع ومراجعات الكتب التي تصدرها دور النشر الشرقيةوالغربية. كانت استراتيجية المجلة واضحة وذات أهداف محددة وغرض معين تم توضيحه في الصفحات الأولي من العدد الأول وخطة عمل واضحة المعالم لتنفيذها: تستمد هذه المجلة برنامجها وخطتها وسيرتها من تاريخ مصر القديم والحديث, ومن المهمة التي نهضت بها مصر منذ شاركت في الحضارة الانسانية العامة. وهي تتوسط بين الشرق والغرب في شئون الثقافة والسياسة والاقتصاد. سبقت الي التعاون الثقافي مع الأمم المتحضرة القديمة ومع الأمة اليونانية خاصة, ثم مضت في هذا التعاون مع روما كما مضت فيه مع أثينا من قبل, ثم استأنفته مع دمشق وبغداد وقرطبة, وهي الآن تمضي فيه مع بلاد الشرق كله ومع بلاد الغرب كله. تنقل الي الشرق خير ما عند الغرب من المعرفة, وتؤدي الي الغرب خير ما عند الشرق من تراثه الثقافي الخالد العظيم. وتستمر هذه المقدمة الهامة والمحددة لنظام المجلة وبنيانها في أن هذه المجلة ستكون وسيلة وأداة من أدوات مصر لتحقيق دورها ونهضتها. وأن المجلة ستكون صلة ثقافية بأدق معاني هذه الكلمة وأرفعها بين الشعوب العربية وبين هذه الشعوب وأمم الغرب ثانيا. وأن المجلة ستعني بقديم الأدب العربي وتدرس تاريخه وتكشف أسراره وتحيي آثاره, وتعني بالأدب الحديث الذي ينتجه الممتازون من كتاب الشرق العربي وتذيعه وتدرسه وتنقده وتشجعه وتجعله غذاء لعقول العرب من أبناء الأمم الأخري المتحضرة بحيث يمكن أن ينتقل الي اللغات الأوروبية المختلفة: ولعل هذه المجلة نفسها أن تنقل مختارات منه الي هذه اللغات وتذيعها في الشرق والغرب بين حين وحين, وتعني مع هذا كله بالآداب الأجنبية, تعرضها الي القراء العرب بالدرس والنقد والتحليل, وتنقل منه أطرافا صالحة ترجو أن يجدوا فيها النفع والمتاع وتستمر المقدمة المهمة في توضيح خطتها, وتصل الي أهم التزاماتها في خطة عملها لتحقيق الجودة العالمية: ستأخذ هذه المجلة نفسها بقانونين لن تحيد عنهما مهما تكن الظروف. أحدهما الشدة علي نفسها وعلي كتابها وقرائها فيما تنشر وما تنقل من الفصول, فلن تقدم الي قرائها الا هذا الأدب الذي ينفق صاحبه في انتاجه الجهد العنيف والوقت الطويل, وينفق قارئه في اساغته من الوقت والجهد مثلما ينفق منتجه....والقانون الثاني هو الحرية الواسعة الكاملة السمحة فيما تنشر وفيما تختار من آثار القدماء والمحدثين, ومن آثار الشرقيين والغربيين لا تنظر في ذلك الا الي الفن الخالص والي قيم الثقافة العليا وما يحقق التعارف والتواصل بين الذين يمثلون هذه الثقافة من رجال الأدب والعلم والفن....هذه هي الغاية التي نسعي اليها, والعهد الذي نعطيه علي أنفسنا, ونحن واثقون بأننا سنجد من المثقفين كلهم في الشرق العربي كله ما يلائم هذه الغاية وهذه الوسائل وهذه النية الخالصة من ثقة وعون وتأييد. ربما يكون قول الراحل الكبير الناقد رجاء النقاش هو خير تشخيص وخير وصف لتلك المجلة العملاقة, والتي تفوق أي مجلة عالمية في حينها وربما علي مر العصور كما سنري. يقول رجاء النقاش في مقال له بالأهرام بتاريخ17 أبريل2005: كان المستوي الثقافي للمجلة رفيعا جدا وليس من المبالغة القول بأن هذه المجلة كانت هي أعلي ما وصل اليه الجهد الثقافي العربي في ميدان المجلات الثقافية من وضوح واتقان وفتح لعشرات من النوافذ الجديدة في الثقافة العربية وعلي الثقافة العربية. والمجلة بأعدادها الاثنين والثلاثين تمثل ثقافة فكرية علمية كبري ولو قرأها قارئ بعناية واتقان واستيعاب لأصبح وكأنه يحمل الدكتوراه من أرقي جامعات العالم. عندما قرأت ذلك التشخيص, ظننت أن به مبالغة رغم أني لم أعهد من قبل أي مبالغة من ناقدنا الكبير رحمه الله فقررت قراءة المجله التي أقتني طبعتها الأصلية, كما قال بالضبط: بعناية واتقان واستيعاب, فوجدت نفسي بعدها غير ما كانت عليه نفسي قبل قراءتها من محتوي ثقافي وانساني. ودعوت لرجاء النقاش أن دلني علي ذلك, ووجدت نفسي أيضا, وأنا أبحث عن كل ما يخص تلك المجلة, أحس بالفجيعة والخسران عندما قرأت ما نشرته الأهرام عن بيان قفلها. كانت مجلة الكاتب المصري احد منابر دار الكتاب المصري والتي لم يقصر انتاجها الثقافي علي تلك المجلة, فقد أصدرت تلك الدار ثمان وثلاثين كتابا عالميا في مختلف الآداب والثقافات شاملة تراجم وكتابات ابداعية عبر الاثنين والثلاثين شهرا التي صدرت خلالها المجلة, أي اصدار أكثر من كتاب شهريا. هذه الكتب ما زالت وستظل جواهر مكنونة في مناجم الثقافة المصرية الرفيعة المتراكمة, فهي تقدم للقارئ العربي أفضل الكتب الغربية والثقافية اضافة الي الكثير من الكتب الابداعية باللغة العربية الأم. ولو قدر لهذه الدار الاستدامة لكانت الآن مثل ماكميلان وماكجرو هيل وجان وايلي وغيرهم من دور النشر العالمية. من هنا أجد نفسي أقول إنه ليس من العدالة كتابة مجرد مقالة واحدة عن ذلك المنجم الثقافي الذهبي المهول لشرحه ومراجعته بالكامل, ولا بد للقارئ والباحث أن يجرب بنفسه ان استطاع الي ذلك سبيلا, وانني فقط قدمت للقارئ الكريم مجرد نبذات وشذرات لمجرد التغطية العامة عن بعض من جوانبها ومحاورها المتعددة, ولتتحقق الفائدة المرجوة ولتبيان مقولة رجاء النقاش عنها, وللمساعدة في رسم خريطة مناجم الثقافة المصرية الرفيعة لتنتشر بين الناس. كان العدد الأول من مجلة الكاتب المصري في أكتوبر1945 وكان مكتوبا في صفحاتها الأولي والثانية والثالثة تحديد دورها ومهمتها: اتفقت مجلة الكاتب المصري مع طائفة من كبار الأدباء الأوروبيين والأمريكيين علي أن يوافوها بمقالات وقصص تكتب لها خاصة بحيث تنشر لأول مرة باللغة العربية قبل نشرها بأية لغة أخري فيكون قراء هذه المجلة أسبق الناس الي الوقوف علي ثمرات عقول هؤلاء الكتاب أعقب ذلك في الصفحة الثانية: تنشر دار الكاتب المصري طائفة من الكتب العربية التي قام بوضعها أدباء معروفون كما تنقل الي هذه اللغة أشهر الكتب الأوروبية والأمريكية وتقوم كذلك بنشر الكتب العربية القديمة والمخطوطات. وجاء في الصفحة الثالثة الاعلان عن جائزة الكاتب المصري: قررت دار الكاتب المصري التي يشرف عليها الدكتور طه حسين بك من الناحية الثقافية انشاء جائزة شاملة جائزة وأفضل الكتب ومن هذه الكتب: قلوب الناس تأليف ابراهيم المصري. لقيطة تأليف محمد عبد الله, من حولنا تأليف محمد سعيد العريان, قطوف تأليف عبد العزيز البشري. كلمنصو وحياته تأليف ليون دوديه, الباب الضيق تأليف أندريه جيد, زديج أو القضاء تأليف فولتير, العالم الطريف تأليف أولدس هكسلي. طعام الآلهة تأليف ه.ج. ويلز, صورة دوريان جراي تأليف أوسكار وايلد, الحب الأول تأليف ايفن ترجنيف. أما الجائزة والتي كانت مفتوحة لجميع الكتاب العرب فقد كانت ذات قيمة مادية عالية في زمانها وأهم شيء فيها أنها لم تكن تميز بين المصري وأي عربي. وكان كتاب المجلة من أفضل ما أنجبت مصر والعالم العربي منهم: طه حسين وأحمد نجيب الهلالي ومحمد رفعت وسهير القلماوي وسليمان حزين وعبد القادر القط ومحمد عبد الله عنان وحسين فوزي ومحمد محمود غالي وعزيز فهمي وسلامة موسي ولويس عوض ومحمد مهدي الجواهري وعلي أدهم ووداد السكاكيني ومحمد عبد الله عنان ويحيي حقي وسليم حسن وعبد الرحمن صدقي وعزيز سوريال عطية ومحمود عزمي وأحمد فؤاد الأهواني ومحمود تيمور ويشر فارس وسيد قطب وشوقي ضيف وعبد الحميد جودة السحار وميخائيل نعيمة وجميل صدقي الزهاوي علي محمود طه وبنت الشاطيء وكثير غيرهم. كانت المجلة تقدم ملخصا لكل ما ينشر في العالم وتنشر كذلك مراجعات للكتب العربية والعالمية. لعل ما نشرته المجلة من مقالات ومراجعات الكتاب العالميين المكتوبة خصيصا لها وحصريا عليها دليلا دامغا علي تفردها, لأن هذه المقالات المهمة جزء مكمل لثقافة العالم كله. هذه المقالات لم تنشر في أي مكان آخر غير الكاتب المصري. ولعله من الأهمية القصوي ضرورة اعادة نشرها في كتاب لتحقيق استفادة العالم منها, وربما قد تحقق بعض الاكتشافات الأدبية جراء ذلك لأن منهم جان بول سارتر وألبير كامو وغيرهم, وربما تحدث هزة عالمية نتيجة ذلك. أيضا كان الكتاب الكبار العالميون يرسلون مقالاتهم لتنشر بالكاتب المصري مما يعد دليلا علي انتشار سمعتها المدوية في الشرق والغرب كمجلة عالمية مهمة خلال شهور قليلة. علي سبيل المثال ما كتبته المجلة بخصوص مقال رجع الصدي والمرقمة(11) في القائمة أسفله كالآتي: كاتبة هذه القصة- وقد أرسلتها خاصة لهذه المجلة- وهي ماري مكارثي الأديبة الأمريكية المعروفة, وقد اشتهرت بقصتها الطويلة المسماة أصدقاءها الذين تعاشرهم, ونشرت لها قصص كثيرة في أمهات المجلات مثل مجلة نيسن وبارتيزان وسنشري. أيضا ما كتبته المجلة بخصوص المقال14- المعنون بالمينوتور لمؤلفه ألبير كامو: ألبير كامو كاتب فرنسي معروف من كتاب الجيل الحديث, نشأ في شمال افريقيا واكتسب لنفسه مكانا ممتازا في الأدب حين نشر أسطورة سيزيف, وهو كتاب يعرض فيه مذهبه في فلسفة العبث, وقصة الغريب التي تمتاز بعمق التفكير ويسر التعبير.. وقد اختصنا بهذا المقال الرائع في الأدب الوصفي الذي ننشره ليري أدباء الشباب مذهب الكتاب الفرنسيين في النظر الي الأشياء وتصورها واتخاذها وسيلة الي التفكير والاعتبار.