قليلون هم من يدركون أن قيمة الحياة في الخير الذي نستطيعه فيها ومهما اعترضتنا الأيام بأقدارها المؤلمة ليس أمامنا من دروب العيش غير الصبر علي المكاره والعمل الدؤوب علي تجاوز المحن فيها. و من دروب الخير في الدنيا أن يواجه الإنسان نفسه بضعفها وعجزها أحيانا وهذا ما فعلته مع نفسي كي أستطيع العيش في الدنيا بشيء من التوافق. وحكايتي أشبه بمأساة' ميلودرامية' تتواتر في حلقات زمنية نتجرعها.. فقد شاءت الأقدار أن أخرج إلي الدنيا بعيب خلقي في القلب قال الأطباء إنه من الأمراض المتوارثة في عائلتنا فوالدي كان يعيش بهذا المرض ومات به وكذلك أبوه وجده. و ها أنا استصرخ الأيام تمضي بي نحو قدر محتوم أعرف أنه ينتظرني يوما ما.. أعرف أن الموت حق وأن الأعمار بيد الله سبحانه وتعالي ولكن فكرة أن تعرف أنك ميت لا محالة وأن عليك أن تترقب ذلك اليوم في هذا جانب من عذاب قاتل فالنيران تشتعل أفكارا ساهدة في ليلي تقض مضجعي.. تأخذني جرا إلي جوف الخوف من ليل مرعب قد لا يأتي بعده نهار. كلما أشرقت شمس جديدة أمتلئ راحة فقد سطرت الأيام لي يوما جديدا أعيشه.. سنوات بعيدة مضت علي ذلك اليوم الذي عرفت فيه حقيقة مرضي.. كنت في العاشرة ألتهم الدنيا بشقاوات عمري المبكر.. أتطلع إلي غدي بعين طائر صغير يحلق هنا وهناك.. ولكني ارتفعت بأحلامي وأطماعي في الدنيا لأكثر مما أحتمل فتهاوت بي الأحلام وخيالات الطفولة علي صخور واقع صلبة, جامدة, تحطم عليها كل شيء. في ذلك اليوم استيقظت من نومي علي صوت أمي تبكي نحيبا مرا, ثكلي فقد انطفأت شمعة فؤادها الأول شقيقي الأكبر الذي رحل عن الدنيا فجأة علي أثر تعرضه لأزمة قلبية مفاجئة. كنا نعرف أنه مريض بالقلب منذ ولادته شأنه شأن أبيه وجده ولكن لم نتوقع أن ضربات القدر يمكن لها أن تداهمنا مبكرا وتقطف أغلي زهرة في عائلتنا.. كان شابا يافعا يتطلع إلي الحياة بأحلام المستقبل ويرسم صورا لحياته مع محبوبته وزوجة المستقبل ولكن الحلم تلاشي قبل أن يأتي.. تجمد المستقبل عند لحظة موته وتجمدت معه الفرحة في حياتنا. منذ ذلك اليوم ترسخ في يقيني أني ذاهب لنفس المصير لا محالة فأنا أيضا مثله ورثت سلسال القلب المميت ولست أدر إن كان سيباغتني مبكرا أم يمهلني بعض الوقت أتنسم رحيق الحياة ريثما تغادرني. مضت بي الأيام أتعايش الدنيا ترقبا وخوفا أشرد بذهني بعيدا حتي أخي وأبي وجدي هناك في العالم الآخر. أنطوي عن الناس حتي عن نفسي ألوذ بالقراءة وأجتهد في دراستي حتي أشعر بوجودي في الدنيا.. أواجه علتي بإقبالي علي الدنيا عملا متفانيا وحبا فيها إلي حد العشق حتي تخرجت في الجامعة وكنت من أصحاب الامتياز وسبحان الله كانت الدنيا رفيقة بي علي غير عادتها حيث أتيحت لي فرصة في مكان له حيثيته بين الهيئات الانتاجية واتخذت مركزي كمهندس ميكانيكا بدخل لم أكن أحلم به. كانت الدنيا تعطيني وكأنها تمهلني أو كالذي حكم عليه بالإعدام ويغدقون عليه بكل ما يرغب في الدنيا قبل أن تنتزع منه انتزاعا. كانت حياتي تسير علي وتيرتها الجامدة في صبر متوجس حتي التقيت بها, فتاة رقيقة ترتسم علي وجهها براءة زمن مضي.. جذبتني مندهشا لإقدامي عليها بلا وجل أو خوف, كانت زميلتي في العمل تجمع بين مقومات الأنوثة وجمالها.. وجدية العمل ورجاحة العقل.. وكما رأيت فيها شيئا مختلفا ارتأت هي أني رجل ذو مواصفات خاصة لا تراها في غيري علي حد قولها. اجتمع قلبي وقلبها علي الحب نحياه استشرافا للحياة معا بأمل لا ينقطع حتي أني نسيت علتي وإرث الموت الذي يجثم علي صدري ثقيلا.. استطاعت أن تنتزعني من نفسي انتزاعا حتي توحدت روحينا وتقزم إحساس الموت في قلبي المريض منفتحا علي الحياة, أعيش فيها وتعيش في.. تهبني من عمرها امتدادا لعمري وأهبها من أحلامي مستقبلا لست أخشي منه بل أترقبه آملا غير وجل ولا خائف, عاشقا غير مدبر لهواجس الماضي المخيف, تخلصت من سلسال القلب الموجوع وانتفضت القوة في قلبي تتحدي كل شيء. في بادئ حبي وارتباطي بها خشيت أن أخبرها بحقيقة مرضي حتي لا يمنعها ترقب الموت مني ولم أشأ أن أبدأ حياتي معها بخداع ولنار الشوق إليها ابتعادا وهجرا أهون عندي من جرح قلبها. ولكني حكيت لها كل شيء حتي مخاوفي المزمنة نقلتها إليها.. كنت أظن أنني أدفعها لفراقي دفعا حتي لا أتحمل وزرها عندما أفارق الدنيا ولكنها تمسكت بي في استماتة وقالت لي: من ذا الذي أعطاك الحق أن تحدد لنفسك عمرا يطول أو يقصر من دون الله ؟ فتحت لي أبواب الأمل التي أوصدتها من زمن, انتشلتني من يأسي واستسلامي لمصير أخشاه وليس لي من أمري شيئا, أيقنت أن أمر موتي بيد الله وليس بيدي وأن المرض أيا كان' عضاله' ما هو غير سبب يحدده الله للحظة نهاية هي حكمة لا يعلمها غير الخالق.. ولكن أزمتي لم تتوقف عند هذا الحد فلو أن أزمتي لا تتجاوز أمر نفسي لهان الأمر ولكني فكرت في شيء ما إن استقر في ذهني حتي زلزلني وهدم كل أسوار الحلم والأمل مع من أحب. ذلك الخاطر المرعب أن أكون سببا يوما ما لتكرار سلسال الموت في عائلتي فأنا إن تزوجت سوف أنجب طفلا يحمل نفس الإرث من المرض وسيعيش نفس المأساة في حياة مهددة وأحلام وجلة خائفة. صارحت خطيبتي بهواجسي وهالني أنها لا تخشي شيئا وأنها تحلم بطفل مني أيا ما كتبه الله له من مصير مقدر محتوم. الخوف يقتلني والشيطان يأكل سمعي بوساوس مرعبة تدفعني للهرب من الحب والزواج حتي لا أكون سببا في سلسال جديد من ارث القلب. أكتب لك بقلم مرتعش خائف لعلي أتلمس بصيص أمل ينجيني من يأسي. ت. ع. القاهرة ترفق بنفسك يا أخي واجعل من ثقتك بالله ويقينك به وقودا لإرادة قوية أنت في حاجة ماسة إليها كي تعرف لنفسك طريقا تسلكه بوعي وإيمان راسخ أننا نعيش قدرا رسمه الله لنا بكل ما فيه من ألم وأمل.. رغبة وحرمان.. خوف وانكسار.. وشجاعة وإقدام.. ضعف وقوة.. كل هذا هو المكون الأساسي لحياة نتكبد العيش فيها مخيرين في أشياء سوف نحاسب عليها أمام رب العزة يوم المشهد الأعظم ومسيرين في أشياء حكم الله علينا أن نحياها لحكمة هو يعلمها وما أنت فيه من مرض متوارث هو قدر محتوم لابد أن تعيشه وتصبر عليه وتثاب عنه. تذكر يا أخي قول رسولنا الكريم الذي روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات, يكتب رزقه وأجله, وعمله, وشقي أم سعيد رواه البخاري ومسلم وابن ماجه. ومن هذا الحديث تجد أن كل أمرك مكتوب في صحيفتك لدي مليك مقتدر كل شيء عنده بقدر فما هو معقود عليك اجتهد واهتم به لأنك محاسب عليه وما ليس لك فيه شيء لا يعنيك في شيء فهو يخص الخالق وحده ثم ما يدريك أنك سوف تنجب طفلا مريضا مثلك هل اطلعت علي الغيب ؟ إن خطيبتك أكثر يقينا وإيمانا منك بالله وبمقدراته ولعمري هي خير الرفيق في الدنيا رزقك بها الله عز وجل لتكون لك ترياقا من سموم أفكارك وصدق الله العظيم عندما قال في محكم آياته:-{ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}( يونس/61) وقوله تعالي:{ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك علي الله يسير}( الحج/70).