لو تأملنا في كتاب ربنا وسنة نبينا صلي الله عليه وسلم لوجدنا أن الرزق والأجل لا حيلة لأحد فيهما إنما مردهما إلي الله الذي يرزق من يشاء وهو القوي العزيز, وأنه إذا جاء الأجل فلا يستطيع أحد أن يؤجله لحظة واحدة, والإيمان بهذين الأمرين وسيلة إلي العزة والكرامة وباب من أبواب السعادة وراحة البال واطمئنان القلب, ولهذا أتي البيان النبوي بالأمر بتقوي الله وأن يجمل العبد في الطلب, وأن يعلم أن الأمور تجري بمقادير فليطلب الأشياء بعزة النفس, وألا يخشي في الحق لومة لائم, وأن يعيش كريما لايزال إلا للخالق الرازق, وعلي هذا المنهج تربي أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن بعدهم جيل الأمة الصالح فلم يطأطئوا رءوسهم إلا لله وحده, ولم تستعبدهم الدنيا بملذاتها وشهواتها, والأمثلة في ذلك كثيرة, وكم فيها من الدروس النافعات والعظات البالغة, وهذه صورة يرويها الأصمعي عن واحد من الأعراب نقي الفطرة حين سمع كلام الله تأثر به وأضحي له سلوكا, وهذه هي قصة الأعرابي مع الأصمعي, حيث يقول الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف علي قعود( أي علي جمل صغير السن) متقلدا سيفه وبيده قوسه, فدنا فسلم وقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع, قال: أنت الأصمعي؟ قلت, نعم: ومن أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلي فيه كلام الرحمن, قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم قال: قل علي منه شيئا, فقرأت: والذاريات ذروا, إلي قوله: وفي السماء رزقكم وما توعدون, فقال: يا أصمعي حسبك, ثم قام إلي ناقته فنحرها وقطعها بجلدها وقال: أعني علي توزيعها, ففرقناها علي من أقبل وأدبر, ثم عمد الأعرابي إلي سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولي نحو البادية وهو يقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون فمقت نفسي ولمتها, ثم حججت مع أمير المؤمنين هارون الرشيد, متمنيا أن أطوف بالبيت الحرام, إذ أنا بصوت رقيق, فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر فسلم علي وأخذ بيدي وقال: أكمل علي كلام الرحمن وأجلسني من وراء المقام فقرأت: والذاريات, حتي وصلت إلي قوله تعالي: وفي السماء رزقكم وما توعدون فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا, ثم سألني: وهل قال غير هذا؟ قلت: نعم يقول الله تبارك وتعالي:( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) فصاح الأعرابي: يا سبحان الله, من الذي أغضب الجليل حتي يحلف؟ ألم يصدقوه في قوله حتي ألجأوه إلي اليمين؟ قالها: ثلاثا وخرجت بها نفسه.. وهكذا تكون الثقة في الله وفضله وكرمه.. فاللهم صلي وسلم وبارك علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه.