أنا سيدة في الأربعينيات من عمري تعلمت تعليما بسيطا وتزوجت مبكرا من شاب وسيم كان صديقا لأخي, وأنجبت منه بنتين وولدا... ومنذ اليوم الأول برهن زوجي عن طباع رائعة فهو الرجل الحنون المحب لبيته ولأولاده فكان يصحو من نومه فيتناول افطاره معي ونقضي الوقت نتسامر ثم يذهب إلي عمله الخاص, ويظل متابعا لأحوال البيت والأولاد تليفونيا حتي يعود من عمله في المساء لأبدأ سهرتي اليومية معه فنتجاذب أطراف الحديث حتي الساعات الأولي من الصباح, ومضت السنوات وكبر الأولاد وتزوجت ابنتي الكبري وأنشأ ابني عمله الخاص ولم تبق إلا ابنتي الصغيرة تدرس بالثانوية العامة فازددت التصاقا بزوجي وأصبح هو عالمي الوحيد أرقب عقارب الساعة لحين عودته كل مساء لتبدأ حياتي ومنذ حوالي شهرين استيقظ زوجي وحبيبي متعبا ولم يستطع تناول إفطاره, وبينما أحاول التخفيف عنه فقد فجأة النطق وزاغت عيناه وحملناه إلي المستشفي ليلفظ أنفاسه الأخيرة وسط ذهولي وعدم تصديقي... وانطفأت حياتي, والآن ياسيدي ورغم مرور أكثر من شهرين, لا أشعر بالرغبة في الحياة ولا أريد أن أفتح عيني كل صباح ولا أن أذوق الطعام وكل ما أتمناه هو أن ألحق به سريعا لدرجة أن الهواجس تنتابني كل ليلة لأقتل نفسي وأريحها من هذا العذاب ولا يثنيني عن هذا سوي خوفي من الله... لكن كيف يرضي الله لي بذلك؟ وهل سيمكنني الحياة مرة أخري؟ وكيف؟؟ سيدتي العزيزة يقول الله تعالي{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} فاصبري وجاهدي حزنك واحتسبيه عند الله واعلمي أنه عندما يصاب شخص بفقد عزيز فإنه يمر بمراحل نفسية طبيعية هي: أولا: الإنكار, وتبدأ بعدم التصديق وعدم التقبل واعتبار الحدث كأنه لم يقع, ومن معالم هذه المرحله الاحتجاج والمعارضة لما حدث وقد تستمر للحظات يسيرة وقد تمتد لعدة ساعات في الحالات الطبيعية, لكن في حالات الارتباط الشديد بالشخص المتوفي كما في حالتك فقد تستمر إلي أكثر من أيام, أما إذا استمرت إلي شهور فهذا مؤشر لاضطراب نفسي يستدعي العلاج النفسي. ثانيا: مرحلة تبلد المشاعر وتخدر الأحاسيس, وفيها يصاب الإنسان بالهدوء الشديد يصاحبه تبلد وجمود علامات الحزن والتأثر, وهذه المرحله تمتد لعدة أيام أيضا وتزيد لدي الرجال ثالثا: مرحلة الحزن والأسي والقلق, وفيها ينتاب الشخص مجموعة من المشاعر والأحاسيس كضيق الصدر والرغبة في البكاء والشفقة علي الميت وتذكر حياته وأفعاله ومعاناته, ومن أعراضها التفكير في الآخرة والموت ويصاحبها تأنيب الضمير ومحاسبة النفس علي التقصير سواء في المجمل أو في حق الميت وربما يصاحبها حالة من إلقاء اللوم علي الآخرين المعنيين بصحته قبل وفاته مثل الأطباء أو الأقارب مع إتهامهم بالخطأ في العناية به, وفي هذه المرحلة تكثر الأحلام المرتبطة به مع نوم غير مريح وضعف شهية وانعدام الاستمتاع بالاشياء, وتكثر الأعراض البدنية, ويميل الشخص إلي العزلة, وقد تمتد هذه المرحلة من أسابيع إلي بضعة أشهر ثم تخبو حدتها تدريجيا رابعا: مرحلة التكيف والتأقلم, وفيها يعود الشخص إلي وضعه وطبيعته من الصحة والنشاط البدني والنفسي ومزاولة مهامه الأسرية والاجتماعية والعملية, وقد تعاوده بعض الذكريات مؤقتا في أوقات المواسم مثل رمضان والأعياد وغيرها من المواقف وفي حالتك يا سيدتي عليك باحترام أحزانك بأن تعيشي كل مرحلة منها دون محاولة القفز عليها, ثم عليك بعد ذلك تعلم الأمور التي تخفف أثر المصيبة علي نفسك وترفع قدرتك علي التحمل وتيسر عليك تقبل الأمر والرضي بقضاء الله وتقوية الإيمان به وبقدره خيره وشره, والانشغال عن الأحزان بالخروج لزيارة الأيتام ودور العجزة وزيارة المرضي وتقوية التواصل مع الأهل والأحباب, والاكثار من الصدقات والنوافل, والتسامح وتذكري أيضا أن ابنتك الصغري تحتاجك إلي جوارها وتريدك أن تعوضي غياب أبيها وفقده بأن تكوني السند البديل والحماية من الدنيا وغدرها, فلملمي شتاتك واستعيدي رباطة جأشك وانفضي عنك غبار الحزن وعيشي يومك لأن الحزن والبكاء يصنعان ستارا كثيفا يحجب عنا حال أحبابنا وفلذات أكبادنا.