لو لم تكن لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي هذا القدر الكبير من الأهمية الوطنية لبريطانيا, شعبا وحكومة ومؤسسات, ما استحوذت علي كل هذا الاهتمام. عام تقريبا قضي في مشاورات ونقاش علي مختلف المستويات لصياغة ميثاق إصلاحي جديد للهيئة الشهيرة ذات السمعة العالمية. وكان من بين المشاركين في التشاور أكثر من200 ألف بريطاني من دافعي الضرائب, ممولي الهيئة التي يعتبرونها أيقونة ورصيدا لبلادهم. قرابة4 مليارات جنيه استرليني يدفعها البريطانيون, في شكل رسوم تسمي رخصة تليفزيون تبلغ145.50 جنيه سنويا لكل منزل به تليفزيون لتمويل بي بي سي. والتهرب من الدفع, من جانب أي شخص لديه تليفزيون بمنزله, مخالفة جنائية. ولا يقبل البريطانيون أي مساس بالهيئة. يتحمل البريطانيون راضين كل هذا كي تكون لهم وليس ل الدولة أو الحكومة هيئة إعلامية مستقلة عن أي تدخل, تمكنهم من الحصول علي: المعلومات الدقيقة المحايدة تساعدهم لاتخاذ قرار واع في أي قضية, التوعية والتعليم اللازمين, والمتعة المستحقة. كل ذلك باستقلال تام عن الدولة ممثلة في الحكومة ووزرائها ومؤسساتها. تعمل بي بي سي وفق ميثاق ملكي, يشكل الأساس الدستوري القانوني لعملها ويخضع لمراجعة كل10 سنوات يحدد مهمتها وطريقة تمويلها ومحاسبتها مهنيا وماليا. المراجعة هذه المرة غير مسبوقة في تاريخ الهيئة الذي يقترب من المائة عام. والأسباب هي: تغير المناخ الاقتصادي والاجتماعي, تضخم وترهل الهيئة, القلق من سوء إنفاق أموالها, التي هي أموال الشعب, شكاوي المؤسسات الإعلامية الأخري من افتقاد العدالة في المنافسة مع بي بي سي, غضب بعض السياسيين الذين يتهمون صحفيي الهيئة بالانحياز واللاموضوعية خاصة في الحملات الانتخابية خلال السنوات ال10 الأخيرة, والتطور التكنولوجي الذي يفترض أن يمكن بي بي سي من أداء دورها بتكلفة مالية أقل ويعزز دور وسائل الإعلام الجديدة غير التقليدية, واكتشاف فضائح جنسية صدمت بريطانيا وبدا وكأن إدارات الهيئة المتعاقبة غضت الطرف عنها. لكل هذه الأسباب, سنت, طوال العام الماضي, السكاكين لذبح الهيئة أو لتقطيع بعض أوصالها وتقليم أظافرها وتكسير أسنانها. وفشل المتربصون بالهيئة التي يتفق الجميع في بريطانيا علي أنها أحد أهم أدوات القوة الناعمة والنفوذ للمملكة المتحدة في العالم. فقد انتصر صوت المصلحة الوطنية بفضل حكمة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ووزير خزانته, ثاني أقوي رجل في الحكومة, في مواجهة تيار المتشددين بقيادة وزير الثقافة والإعلام والرياضة جون ويتينجديل. وحسمت المعركة بوثيقة, من136 صفحة, هي خلاصة المشاورات والنقاشات علي كل المستويات, قدمت للبرلمان تمهيدا لمناقشتها وإقرارها في نهاية شهر ديسمبر الماضي, موعد انتهاء ميثاق بي بي سي الملكي الحالي. حملت الوثيقة اسم بي بي سيللمستقبل: هيئة بث تتسم بالتميز. وفيها كشف الوزير أن80 عن في المائة من الذين استجابوا لطلب المشاركة في النقاش بشأن الهيئة يؤمنون بأن بي بي سي تخدم بشكل جيد قراء موقعها ومستمعي محطاتها الإذاعية وقنواتها التليفزيونية, وأن هذه الخدمات تصل إلي97 في المائة من سكان المملكة المتحدة و348 مليون شخص في أنحاء العالم تقدم لهم المعلومات والتوعية والتعليم والترفيه الممتع. ومن أول لآخر سطر في وثيقة المراجعة, لم ترد ولو إشارة من بعيد تطالب بي بي سي بأن تكون, كمؤسسة عامة ملك الشعب, وسيلة حشد إعلامي, حتي في وقت الحرب أو الأزمات التي قد تهدد أمن البلاد, مثل الإرهاب والتطرف. في مواجهة هذا الوعي الجماهيري العام بأهمية هذه المؤسسة الخدمية العامة والاصطفاف للدفاع عنها, جاءت نتائج مراجعة الميثاق ومقترحاتها أكثر إنصافا وإيجابية وإقرارا بحاجة البلاد إلي مهمة هيئة الإذاعة البريطانية الوطنية المقدسة, بقدر أكبر حتي مما توقعت الهيئة نفسها. ولكن المراجعة استجابت, في الوقت ذاته, لبعض الانتقادات الموضوعية الموجهة ل بي بي سي ولضرورات إصلاحها التي يعترف كبار مديري الهيئة بالحاجة الماسة إليها.