بأنامل روحانية هادئة لا تنطفئ جذوتها المتقدة, يكتب محمد مهدي حميدة الشعر والرواية والنقد متكئا علي دراسة أكاديمية وبصيرة تشكيلية نافذة, ورؤية جمالية وفلسفية تستشرف جوهر الإنسان والطبيعة والبحر والنهر والأرض, وتتوق إلي الإمساك بخيوطها المتناغمة أو المتناقضة, لكن الكتابة الشعرية بجمالها وسحرها الاخاذ المتدفق بالموسيقي والألحان, تسرق كامل طاقته الإبداعية, فلا تترك سوي حيز صغير تتسرب منه خلسة جداول الألوان التشكيلية والروائية الكامنة. تعود علاقتي بالشاعر محمد مهدي حميدة إلي مايقرب من الثلاثين عاما, فقد التقيته في نادي أدب سمالوط موطننا بمحافظة المنيا, عندما مر علينا آنذاك, وكان يمسك كراسة ملونة, ومنذ تلك اللحظة رأيت فيه شابا مندهشا وحالما وصاعدا كقامته المديدة نحو الكتابة وبصوت خفيض يتلو أبياته الشعرية, أصيخ السمع وأنصت لما ينشده, رويدا رويدا تزداد نبرة صوته رسوخا, وتتضح المعاني والدلالات, وتشكل الصور والاستعارات والتشكيلات البديعة التي تطرب الآذان العربية, قصائد شعرية ممزوجة بموسيقي طازجة وندية لم أجربها من قبل, لا هنا ولا هناك, لا عند محمود درويش ولا محمد الماغوط, أوحتي أدونيس الذي كنا نقرأ أعماله من باب الوجاهة والتنطع والانتماء لحداثة ناقصة ومفتعلة. أتذكر أنني أمسكت برهة صغيرة عن الكلام, ثم اندفعت قائلا: هيا ياصديقي.. اقرأ لنا قصيدة أخري, من فضلك لا تتوقف, إنك شاعر أصيل, ولست نسخة مقلدة أو مشوهة, فقد كان شعراء ذلك الزمان نهاية ثمانينيات القرن العشرين يكتبون كلاما لا هو بالترجمة, وبالطبع لم يكن شعرا بالمرة, فالشعر الذي ينتمي إلي إبداعنا العربي الأصيل, كان ولا يزال هو شعر المتنبي وشوقي والبياتي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل, فلا نحن استطعنا أن نحبه أو نتفهمه, لأنه بصريح العبارة كان مجرد كتابة ملغزة وغامضة تصد النفس عن القراءة, وكأنها دواء فاسد يؤذي أكثر مما يفيد. في ذلك الوقت البعيد, كنت أشهد ولادة موهبة أدبية واضحة, تخطو خطواتها الأولي في الكتابة بنعومة وإصرار, مضت بنا الأيام وراح كل في سبيله, وتباعدت اللقاءات من سنة لأخري, ثم انقطعت أخباره عني تماما, لا حس ولا خبر كما يقول المصريون. بالطبع لم أنسه, فقد كان محمد مهدي نموذجا فريدا في أدبه وتواضعه وجموحه, حتي التقيته مصادفة خلال عيد الأضحي المبارك من العام الماضي2015, ودار بيننا حديث تلغرافي قصير, أخبرني أنه يعمل في دولة الإمارات العربية, وقد صدرت له عدة كتب هي: الفن التشكيلي العربي وأبرز مبدعيه, دار سعاد الصباح, الكويت2002 م( وقد نال هذا الكتاب الجائزة الأولي للإبداع الفكري والأدبي من دار سعاد الصباح في العام2001 م) وكتاب عمائر المنمنمات الإسلامية دراسة جمالية عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة,2010 م المجموعة الشعرية صناعة الأنقاض ورواية امرأة خضراء سوف يرسلهم لي عقب رجوعه إلي الشارقة. أقرأ نصوص محمد مهدي حميدة بمتعة عقلية وجمالية بصرية تمتح تشكيلاتها الفنية من شاعرية مرهفة العواطف مرهفة الأحاسيس, تتجسد في ذاته انعكاسات ماحوله, فلا يفصح عما في دواخله إلا عندما تبوح القصيدة بسره... لذلك فحتي سنوات العمر وهو يبصرها تمر لا تعرف مايخبئ لنا المجهول من ألام وآحلام ورغبات مؤجلة وسط موجات متلاحقة من صناعة الأضداد والأنقاض.. لذلك يصرخ بهدوء( عليك وأنت تتحرر حتي من نفسك/ أن تنسي دوما/ كل ما حدث في الماضي/ وأن تمشي مسلحا برائحة المجهول) وتابع في قصيدة العمر من ديوان صناعة الأنقاض( ستنفد كل السنين فجأة/ وتهجر أقراص المسكن/ رغباتك المؤجلة/ قبل أن تدرك/ ولو لمرة واحدة/ أن العمر مجرد ورشة لصناعة الأنقاض) ورغم ذاتية الصوت إلا أن القصيدة ترمز لبعد إنساني عام. يمزج بين الذاتي والموضوعي. والذي يتابع أعماله يدرك أن الغربة التي تراوده هي من نوع غربةالمبدعين والمتصوفة الذين ينسحبون من دوامة اليومي والسائد في حياة الناس من أجل خلق الفضاء التأملي الذي لابد منه للتجلي والسمو في عالم الإبداع, ولا غرابة فقد بدأ منذ نشر قصائده الأولي في منتصف تسعينيات القرن العشرين في تأملات تدرجت في رموزها بإيحات فلسفية تربط الخاص بالعام بأهم القضايا التي تؤرق الإنسان ففي قصيدة صناعة الأنقاض يقول: عندما تصير الروح مقبرة وسيعة تمتلئ بقبور كثيرة لموتي أعزاء سأبني حولها سورا ضخما بلا أبواب وأقفز إلي الداخل كل ليلة حينما يبدأ قلبي في الوميض لأري من من الهياكل سيركض سعيدا لملاقاتي قبل الآخرين علي هذا النحو أعتقد أن كتابة الشعر عنده ستظل لحنا ناقصا وأملا متجددا بل وصراعا مستمرا علي الدوام بين الذات والعالم, يسمو نحو صياغة أكثر إنسانية للحياة, منه نتعلم ضرورة الإخلاص, وعبر موسيقاه نتلمس جواهر النفس البشرية الصافية, وهي تتلظي بالشاق في محاربة أمواج الغربةوالتوحش والبربرية والطغيان. وإجمالا فإن الشاعر محمد مهدي حميدة يكتب إبداعا ناعما.. فهو البلسم الهادئ علي ذاكرة الوطن والروح والجسد.. ينسج قصائد تجريدية أوتجريبية لا فرق.. يرفض ثقافة التخلف وصناعة التناقض.. يحاسب الماضي ويعاقبه.. لم يتخل أبدا عن قراره بامتلاك أقصي درجات الحرية, إنه الحالة الاستثناء, التي تفتح مسارات الدهشة والميلاد والجمال, لتأتي أعماله ممتلكة لوعيها الثائر وقانونها الخاص. بشكل عام وبشكل خاص.. قصائد محمد مهدي حميدة هي ومضات ضوء ساحر تمنح القارئ وعيا وفكرا واندفاعات.. وإذا كان حضوره الثقافي الآن هو روح الفنان وعشق الإنسان.. فإن المستقبل سيسجل أنه من الأدباء الذين غيروا مسارات الإبداع.