عندما يصير الفساد طريقة حياة فإن الانسان يمارس سلوكيات تتعارض مع الأخلاق بطريقة تلقائية وبلا إحساس بتأنيب الضمير, تماما كما لو كان يأكل ويمشي ويتنفس. فتري موظفا يعطل مصالح الناس ويتقاضي رشاوي, فإذا ما سمع أذان الظهر مثلا ترك كل شئ وراح يصلي ويدعو لنفسه وأولاده بالخير والصحة والبركة. لا يشعر بأي تناقض في أفعاله. وتسمع عن رجل أعمال يتصدق ويحسن إلي الفقراء, ويدفع رشاوي ليأكل حقوق الناس بالباطل, أو يستجلب سلعا ضارة. هو لا يري أنه فاسد بقدر ما يعتبر نفسه ناجحا, وموظف كبير في بلدية حي مثلا يتقاضي رشاوي من أصحاب معارض السيارات ليتغاضي عن احتلالهم بلا وجه حق الأرصفة ونهر الطريق لعرض سياراتهم المبهرة, وليذهب المشاة إلي الجحيم سيرا علي الأقدام أو في حوادث الطرق. وهكذا أشكال وألوان من الممارسات اللاأخلاقية التي يمكن أن يمارسها الانسان بصرف النظر عن مهنته, معلما كان أو طبيبا أو شرطيا أو تاجرا. عدم إدراك الفاسدين حقيقة أنفسهم يرجع لأن هذه الممارسات صارت من كثرة تواترها جزءا من ثقافة مجتمعهم, أصبحت طريقة حياة. وفي أول تقرير من نوعه يصدره الاتحاد الأوروبي, ويقع في إحدي وأربعين صفحة, تم رصد ممارسات فساد متنوعة في الدول الأوروبية, من بينها رشاوي وتهرب ضريبي واحتيال وتزوير ومحسوبية. وصلت تكلفة هذه الممارسات لنحو120 بليون يورو في صورة خسائر مادية تتكبدها اقتصاديا هذه الدول سنويا. وقد حذر التقرير من خطورة الفساد لأنه يؤثر سلبا علي حياة المواطنين ليس فقط ماديا, وإنما أيضا معنويا, وهنا تكمن الخطورة الحقيقة علي المجتمع. وكانت عدة دراسات أوروبية قد أثبتت أن انتشار الفساد في مجتمع ما, يغير من مفهوم أفراده لمعني الأمانة ويؤثر في إدراكهم النفسي وأخلاقهم. من ذلك دراسة جرت في جامعة نوتنجهام البريطانية, وشملت متطوعين من ثلاث وعشرين دولة. أشترك المتطوعون في تدريبات معينة بحيث يحصل من ينجح منهم في إتمامها علي مكافآت مالية رمزية. لاحظ الباحثون أن الأفراد الذين ينتمون إلي مجتمعات يتفشي فيها الفساد كانوا أكثر لجوءا للغش من غيرهم عند إتمام هذه التدريبات. من هنا خلصت الدراسة إلي نتيجة مفادها أن الفساد مرض اجتماعي ينتشر بالعدوي. ولا تحتاج هذه النتيجة لأي تفسير لأنها منطقية للغاية, فإذا كانت ممارسات الشخصيات العامة في مجتمع ما لا أخلاقية, وإذا كانت الحياة السياسية في هذا المجتمع قائمة علي التدليس والتزوير, وإذا كانت الرشوة والمحسوبية سلوكيات شائعة, وإذا كان القائمون علي تطبيق القانون يتهاونون في معاقبة الفاسدين, فالنتيجة المنطقية أن المواطنين العاديين سيتقبلون هذه السلوكيات, بل ويمارسونها أنفسهم كلما استطاعوا لذلك سبيلا. في المجتمع الذي يتحول فيه الفساد إلي طريقة حياة يصير من شبه المستحيل إقامة مؤسسات تعمل بطريقة نزيهة وفعالة, وتتردي الظروف المعيشية, ويتدهور مستوي الأخلاق بين الناس, وهم لا يكادون يشعرون, بل ويتساءلون في دهشة أين ذهبت أخلاقهم؟! الحل الحاسم لوقف تردي الأخلاق هو إيجاد ثقافة جديدة في المجتمع تقوم علي احتقار الفاسدين واللصوص. ويتم ذلك في المقام الأول عن طريق تطبيق القانون بلا تمييز أو استثناءات علي الجميع, لا سيما الشخصيات العامة والسياسيين. هذا هو أقصر الطرق وأكثرها فعالية لإيقاظ ضمير المجتمع والخروج من دائرة الفساد الشريرة, واستعادة مكارم الأخلاق التي ضاعت عندما أصبح تطبيق القوانين انتقائيا لا يسري علي الجميع.