بعد خمسة أيام وفي السابع عشر من مارس, تحل علينا الذكري العشرين لوفاة العبقري حسين مؤنس رحمه الله. هو الأديب والمؤرخ والباحث الراسخ في العلم والكاتب الصحفي والمثقف العالمي الذي لا يضاهي هو مؤرخ الأدباء وأديب المؤرخين. كان متعدد المواهب. وما لمست يداه شيئا, إلا وكان النجاح ثمرته. في أواخر سنوات مجلة الثقافة, كان إنتاجه الغزير مساهما في استمرارية نجاح تلك المجلة العملاقة, وعندما تولي رئاسة تحرير مجلة الهلال عام1977, أكسبها صبغة العالمية والرقي. كان ذراع طه حسين اليمين في إخراج مشروع الألف كتاب, والذي هو بحق مشروع السد العالي الثقافي للثورة المصرية الذي بدأ عام.1955 كان يحظي بثقة الجميع لعلمه وعظمته. كانت مقدمة الرئيس جمال عبد الناصر للطبعة الأولي لكتابه مصر ورسالتها دراسة في خصائص مصر ومقومات تاريخها الحضاري ورسالتها في الوجود تأليف الدكتور حسين مؤنس1956, دليلا قاطعا علي أنه مثقف الدولة الأكبر, وموضع ثقة قادتها في أحرج فترات القرن العشرين التي كانت تمر بها مصر, وأنه علم من أعلام الفكر في مصر والعالم العربي, يقول الرئيس عبد الناصر في تلك المقدمة: .. منذ فجر التاريخ, ومصر تشع علي العالم أقباسا من العلم والمعرفة, وتحمل بين يديها القويتين مشعل النور والحضارة. فمن مصر انبثق إشعاع التوحيد, توحيد الإله الأعظم, فلم تشرك به أحدا.. وفي مصر ظهرت اليد الأسية, التي خففت من آلام الإنسانية وأسقامها, حيث تقدم الطب وسما فن الجراحة. وكانت مصر الأمة العبقرية التي تقدم علي يديها فن البناء والهندسة... وهي مصر التي ترعرعت في ربوعها الفنون علي اختلاف ألوانها, وترعرع فيها الأدب, شعرا رفيعا رائعا ونثرا قصصيا جميلا, وترعرع فيها فن النحت, وازدهر فن النقش والزخرفة حتي جاوز الإبداع والروعة.. هي مصر التي احتضنت المسيحية منذ أن بزغت, وحفظت لها روحها وطابعها... هي مصر التي اعتنقت الإسلام وزادت عنه, وحافظت عليه, واحتضنت تراثه, وظهر فيها عباقرة كان التاريخ مبهما غامضا, فإذا تطلع إليها العالم الآن فإنما يقدمها إليه تاريخها الحافل بالأمجاد, الضارب في أعماق الزمن. صدرت الطبعتان الثانية والثالثة للكتاب بدون تعديل, غير أن المؤلف قرر إعادة كتابة الكتاب في الطبعة الرابعة والتي صدرت في عام1973, حيث كتب موضحا أسباب ضرورة إعادة الكتاب في مقدمة الطبعة الرابعة:.. زاد إدراكي لقدر مصر ومسئولياتها حيال نفسها وحيال البشرية كلها, وأحسست أن إعادة صياغة الكتاب واجب لابد أن أقوم به ومسئولية يفرضها علي ولائي لهذا الوطن الأعز ومسئوليتي حياله... وأعتقد أنني بهذه المحاولة الثانية, خطوت خطوة جديدة نحو معالجة موضوع رئيسي بالنسبة لنا نحن المصريين وإخواننا في العروبة وأبناء عمومتنا في القارة الإفريقية: موضوع فلهم مصر وما عملت وما لم تعمل وما ينبغي أن تقوم به لكي تستطيع أن تؤدي رسالتها التي فرضها عليها التاريخ. والبلاد كالناس بعضها لها رسالات في الحياة مفروضة كالقدر, وبعضها فيما أري, ويري الكثيرون بلد له رسالة جليلة... مصر هي البداية, وهي النهاية, وهي كنانة الله في أرضه, وهي أم الدنيا. يقع الكتاب في161 صفحة, إضافة إلي صفحة للفهرس. الكتاب, كما وصفه المؤلف في تقديمه الطبعة الرابعة, الصادرة عن لجنة التأليف والنشر1973: هو أول محاولة علمية لفهم مصر, وتفسير تاريخها والتعرف علي شخصيتها والكشف عن رسالتها بين الأمم. وعندما صدر الكتاب عام1956, لاقت طبعته الأولي ترحيبا شديدا من أساطين المؤرخين والباحثين حينها داخل مصر وخارجها, من أمثال محمد شفيق غربال ومحمد عوض وعبد الرحمن الرافعي وجمال حمدان, حيث تناوله جميعهم بالنقد والتمحيص والإعجاب الشديد. كان الكتاب بداية الاهتمام بالنشر الأصيل في هذا الموضوع. بعده كتب الدكتور محمد شفيق غربال كتابا بعنوان: تكوين مصر باللغة الإنجليزية, وكتب جمال حمدان: شخصية مصر, كما تمت ترجمة الكتاب إلي اللغة الألمانية ونشرت منه أجزاء كثيرة إلي اللغة الإنجليزية قام بها, نيفل باربر. يقول الدكتور مؤنس: في البدء كانت مصر. قبل الزمان ولدت, وقبل التاريخ وجدت.. هنا بدأ كل شيء: الزراعة والمعمار والكتابة والورق والهندسة والقانون والنظام والحكومة. هنا أيضا ولد الضمير, واكتشف الانسان الروح.. من حيوان يجري لينجو من خطر, أو ليفترس, أو ليأكل, أو ليبحث عن أنثي... تحول إلي إنسان يفكر ويتأمل ويرسم ويكتب ويحاسب نفسه, ومع حساب النفس, نشأت الألهة لتقوم بالحساب وتنصب الميزان.. خارج الدنيا نشأت دنيا السماء, وقام الدين بالأخلاق والخير والشر. الملائكة والشياطين ولدوا جميعا هنا, ومن عندنا خرجوا إلي الدنيا... وفي قلب المصري القديم, وفي بيته وفي مدينته وحقله, في أرضه وسمائه وجدت معات, رمز الضمير والإحساس الإنساني والقانون الأخلاقي. معات, هي ما نسميه اليوم بالمروءة المروءة بمعني الإنسانية والحب والخير والعدالة والفضيلة. هذه كلها اكتشفها المصري القديم, وعندما اكتشفها وصل إلي أعظم كشف في تاريخ الفكر البشري, اكتشف أنه إنسان, وأن هناك فرقا بينه وبين الحيوان: لا تنازع علي البقاء, وإنما تعاون للبقاء, لا قتل ولا ظلمو لا عدوان, بل حب وتعاون وإخاء... هذا سر من الأسرار الكبري لحضارة مصر القديمة التي حيرت البشر. ويستطرد حسين مؤنس في وصفه مصر أم الدنيا فيقول: قرون تجري في إثر قرون, عوالم تولد ثم تموت, ومصر هنا في مكانها, تبني وتنشئ وتعمر وتكتب وترسم وتنشد وتصلي وتتألق وتتوهج وتخبر, ثم تتألق وتتوهج.. من هنا بدأ العلم والفن والفكر. وكما كانت مصر في كل زمان, فهي أيضا كائنة في كل مكان.. في فرنسا يقولون إن مصر تبدأ من ميدان الكونكورد, حيث مسلتنا العظمي علي مسافة قريبة من ميدان الوفاق. هنا يقوم متحف اللوفر, والقسم المصري فيه جزء من تاريخنا وتاريخ فرنسا معا, اشترك في كتابته فرنسيون ومصريون. كان جان فرانسوا شامبليون يقول: أنا شامبليون المصري. عندما عاد من مصر وزار قريته المسماه فيدجاك, قال: هذا كفر فيدجاك. جاء إلي بلادنا غلاما في الثامنة عشر من عمره يلتمس المجد, وخرج منها وفي إحدي يديه مفتاح الهيروغليفية, وفي الأخري مفتاح الحياة, وأصبح وهو في الثلاثين من عمره أستاذا في الكوليج دي فرانس. بهذين المفتاحين أضاف إلي تاريخ البشرية خمسة آلاف سنة. يستمر حسين مؤنس في حديثه عن وجود مصر في كل مكان في الدنيا, وفي كشوف الأثريين في كل مكان وبها شيء من مصر. وفي الأندلس إسبانيا والبرتغال اليوم كانت باجة في البرتغال تسمي مصر, ومرسية في إسبانيا كانت أيضا تسمي مصر, لأن العرب الذين سكنوها كانوا مصريين. مصر هذه كبيرة صغيرة.. الذي نراه منها علي ضفاف النيل هو عاصمتها.. عاصمة تبدأ عند الإسكندرية وتنتهي عند الشلال وبقية الدنيا هي البلد. المصريون يقولون: مصر أم الدنيا. حقيقة كبري يقولونها دون أن يدركوا مغزاها. نعم أم الدنيا, بل هي الدنيا.. ولو عرف كل مصري قدر مصر لما كفاه أن يعمل لها بيديه وأسنانه وعقله عشرين ساعة في اليوم.. بهذا فقط يكون المصري جديرا بمصر. ومصر عاشت تاريخها علي العلم وأهله. عالم مصر الأول هو إمحوتب. هذا المهندس العظيم الذي وضع تصميم مدينة سقارة ذات الأسوار وبناها كان طبيبا أيضا, قد جعله الإغريق إلها... بعد علماء مصر القديمة الذين اخترعوا الهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والقانون والأخلاق, جاء علماء الإسكندرية. كانت جامعة كبري ملأت الدنيا نورا. لم يزدهر العلم في مدينة قبل العصور الحديثة كما ازدهر في الإسكندرية: فلاسفة ورياضيون ولاهوتيون وجغرافيون ومؤرخون, علماء ملئوا طباق الأرض علما, واحد منهم استخرج وزن الأرض, وآخر قاس بعد الشمس. كنيسة أيا صوفيا أعظم عمل معماري مسيحي خلال العصور الوسطي بناها مهندسان من الإسكندرية. علماء مصر الإسلامية لا يحصيهم عد. في يوم من الأيام جمعت الفسطاط علم الدنيا كله. في كل نواحي الإسلام ركدت العقول في أواخر العصور الوسطي, إلا في مصر: كيف يمكن أن يكون مصر في ركود ذلك العصر الذي عاش فيه أمثال السخاود والسيوطي وابن حجر العسقلاني والمقريزيوابي المحاسن والقلقشندي والنويري وابن منظور والمرتضي الزبيدي وعبد الرحمن الجبرتي؟. وفي العصر الحديث اتصلت سلسلة أهل العلم والأدب, من رفاعة رافع الطهطاوي إلي محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمود الفلكي وحسن ظيفل ومحمود سامي البارودي وشوقي وحافظ وطه حسين ولطفي السيد وعلي إبراهيم وعلي رامز ومحمد رمزي وعبد الرحمن الرافعي وشفيق غربال ومصطفي نظيف وبناة السد العالي وصناع مجدنا الصحفي إلي أبي نظارة.. إلي آخرين كثيرا جدا لا تحضرني أسماؤهم. يختتم الدكتور مؤنس بابه المعنون: مصر أم الدنيا بطرحه سؤالا: هل أجبنا عن سؤال: ما هي مصر؟, ويجيب: لا أعتقد. ثم يستطرد حسين مؤنس في شرح تاريخ مصر القديم والموقع الجغرافي الفريد لمصر: وهذا الموقع الجغرافي الفريد هو في ذاته رأس مال ضخم لو وجد من يعرف كيف يستخدمه, فإننا في أهم ملتقي طرق علي هذه الأرض, والمرور بأرضنا ضرورة لا يستغني عنها البشر... وظلت لهذا الموقع أهميته مدة قيام دولة الرومان, فلما انقضي أمرها, واستولت علي أراضيها قبائل المتبربرين, هبط النشاط البحري في البحر الأبيض حينا ريثما استجمع العرب أمرهم واستقرت دولهم علي شواطئ ذلك البحر, وتجمعت لها أسباب القيام بأمور البحار من موانئ ودور صناعة وأساطيل وملاحين وما إلي ذلك, فعاد النشاط إلي حوض البحر الأبيض المتوسط من جديد في ظلال العرب, ومع عودة النشاط, عاد لموقع مصر أهميته, فإذا بها مركز البحرية الشرقية الإسلامية, حيث كانت تصنع فيها السفن, ومنها كانت تصدر العمائر, وبرجالها كانت تحشد الأساطيل, واستمر ذلك طوال العصر الأموي, لأن الدولة الأموية كانت دولة بحر متوسطية, وكان الشام مهدها ومصر قاعدتها الكبري, وحوض البحر الأبيض الشرقي مجالها الحيوي. ويستمر في شرحه تاريخ موقع مصر, يخلص في النهاية إلي ثلاث حقائق مهمة: الأول هي أن تاريخ مصر هو تاريخ البحر الأبيض المتوسط علي وجه التقريب, فإذا استقرت أمور مصر ورخيت أحوالها, عمر هذا البحر بالنشاط وانتعشت موانيه ورخيت أحوال بلاده. وخلاصة هذا الكلام أن البحر الأبيض في الحقيقة: إسكندري أعطته الإسكندرية ما لم تعطه غيرها, وأفاد منها ما لم يفده من غيرها أيضا, وأيسر دليل علي ذلك أن أزهي عصوره هي أزهي عصورها. والحقيقة الثانية هي أن تاريخ مصر متأثر بالبحر الأبيض علي صورة دائمة. والحقيقة الثالثة هي أن حياة مصر لا تستقيم إلا إذا كانت علي صلة بالبحر الأبيض. ويستطرد حسين مؤنس المؤرخ في شرح تاريخ مصر منذ ولادتها ويخلص إلي مقولته الأساسية. تنازعت مصر ثلاث قوي: إفريقيا, آسيا والبحر الأبيض, هذه القوي الثلاث التي تنازعت تاريخ مصر, هي الأبعاد الثلاثة لهذا التاريخ.. ولابد لمصر إذا أرادت أن يستقيم ميزان حياتها من أن توازن بين هذه القوي, فلا تغلب واحدة منها علي واحدة, ولا تصرفها واحدة منها عن واحدة. هذه الأبعاد الثلاثة للتاريخ المصري تحدد لنا حدود الحضارة المصرية, فإن لكل بلد ذي مقام علي وجه الأرض حدودا حضارية لابد أن تقوم برسالتها فيها... ومصر من تلك الأمم ذات القوة الدافعة التي تحمل حضارتها إلي ما وراء حدودها بمراحل كثيرة, هذه الحدود الحضارية هي التي تحدد للأمة رسالتها في الوجود... لأن التاريخ في صميمه تاريخ حضارات وصراع مدنيات, فحدود مدينتنا هي حدود تاريخنا, وبقدر ما نحافظ عليها تقسم لنا أيام الرخاء والسعود. وبعد أن رسم لنا حدود الحضارة المصرية ووضح اتجاهات نشاطها في ميادين العلم والفن, وبين لنا أبعاد التاريخ المصري, يحدثنا عن استمرارية الحضارة المصرية, فيقول: رسالة مصر لم تختلف علي طول الزمان, وإن تعاقبت الأعصر وتغيرت الأدهار. فهي في كل زمان من مراكز الحضارة وحصونها ومهادها, وأهلها في كل عصر قومة علي تراث الإنسانية, وأمناء علي جانب كبير مما أبدع البشر في ميادين العمران. ولعل بلدا من بلاد الأرض لا تصدق علي حضارته صفة الاستمرارية كما تصدق علي مصر, فإن مصر التي ولدت من نحو خمسة آلاف سنة, مازالت هي بعينها اليوم: لم يتغير فيها الدين علي طول هذه الأحقاب إلا مرتين, ولم تتغير اللغة إلا مرتين أيضا, علي حين أن بريطانيا مثلا, لا يرجع تاريخها إلي أبعد من ألفي سنة, تغير الدين خلالها ثماني مرات واللغة ست مرات. أما جنسنا فلم يتغير في جملته هذه الأعصر إلا تغيرات طفيفة... ونتيجة ذلك أن طبيعة الحياة في مصر وجوهرها لم يختلفا كثيرا رغم هذه الأحقاب المتطاولة.