ليس هناك شيء تركه قدماء المصريين, واستثار شعور العالم الحديث مثل مسيرة المؤسسة العسكرية المصرية, علي مدي القرون وتعاقب الأجيال, فإذا كان تاريخها متنا حافلا فان ما حدث من تعاطي هذه المؤسسة مع الأحداث الجارية, لا يعدو أن يكون سطرا علي الهامش. ****** وللبرهنة علي ذلك, نجد العون في استنطاق سجلات الآثار والتاريخ وشهادات الأكاديميات العسكرية الحديثة. هناك دلائل واضحة, يستدل منها بأنه منذ تأسيس الدولة القديمة ولمصر منظومة حربية بلغت مكانة مرموقة من التقدم, فقد كان هناك كثير من وحدات الجيش, تقوم بأعمال ترنو لتدعيم رهبة ملك مصر علي الصعيدين الداخلي والخارجي, بعضها دائمة لها مهمات خاصة.. تضاف اليها أخري بالتجنيد عند الطواريء مما من شأنه جيشا قوميا, يخضع لأوامر وقوانين دقيقة تفرضها عليه الحكومة, ويمكننا أن نذكر في هذا السياق انه توجد علي جدران مقابر الدولة القديمة بسقارة, مناظر توحي بأن القوات المصرية كانت حسنة التدريب عالية الكفاءة, وأول اشارة لمعركة بحرية كانت من الأسرة السادسة(2345 2181 ق.م) وقد نجحت في القضاء علي تمرد في شمال فلسطين. وفي عهد الدولة الوسطي2055 1985 ق.م, ظل تنظيم الفرق العسكرية كما كان عليه في عهد الدولة القديمة وان طرأ عليه بعض التطوير فقد كانت هناك رتب عسكرية إلي جانب رتبة الجنرال وكان اسم الجندي الشجاع يقيد في السجلات الملكية, وعبرت عن تقديرها بالانعام عليهم بالألقاب التشريفية والأوسمة والأنواط والمكافآت السخية والترقي إلي أرقي مناصب الضباط, فشاع من الألقاب التشريفية: المقاتل والأسد والجسور والقناص. وفي عصر الأسرة الحديثة1550 1069 ق.م, أصبح المصريون الشعب العسكري الوحيد والأول في تلك الأزمنة الموغلة في القدم, فبعد أن استطاع أمراء طيبة طرد الهكسوس من مصر أنشأ خلفاؤهم( الأسرة الثامنة عشرة) وبانشائها بدأ مجد مصر العسكري, بعد ان استخلصوا العبر علي أحسن وجه وأكمله وبالنتيجة اعتنق سادة الحرب الجدد من أبناء وأحفاد الأمراء المحاربين العظماء, الذين قادوا حرب التحرير. ويكاد يكون من الطبيعي إذن بل من المحقق ان يولد مبدء جديد تبلور في هدف رئيسي واحد, هو توجيه معظم موارد الدولة لانشاء وتنظيم جيش قوي اعتبر بجميع المعايير أقوي الجيوش العسكرية التي ظهرت في تاريخ العالم القديم كله, وبهذا الجيش العظيم تكونت امبراطورية ضخمة من أوائل الامبراطوريات التي عرفها التاريخ ضمت إلي مصر أرض السودان وفلسطين ولبنان وسوريا, بالإضافة إلي بعض مناطق العراق, وكان من أعظم قادتها الفاتحين تحتمس الثالث ورمسيس الثاني, ولابد من الاشارة إلي أن تربية القادة والضباط من أفراد تلك المؤسسة العسكرية كانت تتطلب كثيرا من التربية العسكرية والثقافة السياسية, مما اقتضي من المصريين أن ينشئوا مدرسة حربية في منف يتلقي فيها الشباب فنون الحرب والرياضة العسكرية وغير ذلك من المعلومات والثقافات اللازمة لهم, وهكذا تمرس القادة والضباط بالعلم والثقافة الرفيعة طبقا للنظم التعليمية التي كانت سائدة بمصر إلي جانب ما تزودوا به من علوم وفنون عسكرية تناسب طبيعة العصر الجديد. ومثل هذه الاعتبارات كفيلة بأن تقودنا لبداية بلورة ما يمكن أن يطلق عليه الشرف العسكري حيث يري الباحثون في تاريخ مصر القديم أن الجيش المصري كان أخف الجيوش كلها في المجتمعات القديمة في تعاطي البطش والانتقام والتنكيل بالأعداء فلم يعمد قواده في غالبيتهم ان ينزلوا أشد صنوف العذاب والتنكيل بالأسري, كما فعل السومريون والبابليون والأشوريون والحيثيون, بل علي العكس من ذلك عاملوا أسراهم أحسن معاملة. فمن هؤلاء الأسري من جري ادراجه في قوات الجيش المصري ومنهم من كان يعمل في خدمة المعابد أو يعمل في مشروعات مختلفة, بل ان بعضهم قد ترقي في المناصب العليا مما جعله حسد الكبراء من المصريين أنفسهم. ويمكن اجمال التطور الذي طرأ علي مسيرة المؤسسة العسكرية المصرية, بأن المصريين القدماء هم الذين ابتدعوا المبادئ والأسس التي قام عليها علم الاستراتيجية وعلم التكتيك وفنون الحرب وتنظيم الجيوش الكبري, ووضع خطط المعارك الحربية التي مازالت حتي الآن محل دراسة بأكاديميات الحرب الحديثة في كل مكان. بل والتي اعاد تطبيقها أو استرشدوا بها واستوحوها عتاة القادة العسكريين في الحربين العالميتين الأولي والثانية مثل التي استوحاها الفيلد مارشال اللورد اللنبي, والفيلد مارشال مونتيجمري. ولقد يحق لنا أن نستدرك في هذا الصدد فنقول أنه كان للفاطميين في مصر قوات عسكرية منظمة صارت لها الكلمة الأولي في الشرق الوسيط الإسلامي ليس في مصر وحدها بل شملت أيضا بلاد الشام بأجمعها وجزء من الجزيرة العربية, أما العصر الأيوبي الذي تلاه فيكفي أن يقال أن الجيش المصري فيه كان عنوان شهرة المقاومة الإسلامية ضد الغزوة الصليبية وقد امتاز بمستويات من الكفاءة كانت مثار حسد قادة الصليبيين وكان أعظم انتصار له علي الصليبيين في موقعة حطين وما يقال عن الجيش المصري في عهد الأيوبيين يمكن أن يقال شيء من قبيله عن الجيش المصري في عهد المماليك, وكان هذا قد امتدت أذرعته إلي اليمن وقبرص وكان من أقوي جيوش العالم في العصر الوسيط, وكذلك كان في بداية عهد محمد علي باشا وكان آخر أمجاد الجيش المصري دوره العظيم في حرب أكتوبر عام1973. وفي نهاية المطاف حسبنا هذه العناوين وفي كل عنوان ملحمة تشدو بما حققته مصر في مسيرتها العسكرية, سقناها كما وردت من خلال استنطاق سجلات الآثار والتاريخ بغية استخلاص العبر. ويأتي في مقدمتها من حيث الأهمية أن الدول العظيمة لا تأتي نهاياتها الا من الداخل علي ايدي أبنائها, ففي العصور التي اعتصمت فيها مصر بوحدتها واستمسكت بنظامها ازدهرت قوتها وامتد نفوذها وسلطانها وفي العصور التي انفرط فيها عقد وحدتها الوطنية وتصدع نظامها طمع فيها الطامعون وسعي إليها الغزاة من كل صوب وحدب, وهذا ما آلت إليه حال مصر اثر فشل حركة اخناتون الاصلاحية, ويشير إليها بوضوح ذلك الحادث غير المألوف الذي واكب وفاة توت عنخ آمون عام1327 ق.م, وهو خطاب أرسلته إلي ملك الحيثيين شوبلوليوما أرملة الملك المتوفي عنخ آس آمون شرحت له فيه أنه ليس لديها ولد, وتوسلت اليه أن يرسل إليها أحد أولاده ليقترن بها ويتولي العرش, لكن ملك الحيثيين لم يأبه في أول الأمر لمطلبها, وظن أن في الأمر خدعة فارسل رسولا من عنده ليتأكد من صدق الملكة, ولما تبين الرسول صدقها, أرسل الملك بالفعل أحد أبنائه بيد أنه لم يدر بخلد ملكة مصر وملك الحيثيين اطلاقا أنه بفعلتها قد ثارت ثائرة المصريين باعتبارهم لها مذلة منقطعة النظير, وبالنتيجة لم يكد يصل الأمير الحيثي علي مقربة من الحدود المصرية, حتي داهمته مجموعة من أحد أذرعة المؤسسة العسكرية( المخابرات العامة) علي مقربة من الحدود المصرية السورية, وأردته قتيلا.. والذي نستطيع أن ندركه من ذلك انه رغم الضعف الذي دب في جسد الأمة المصرية كانت ثمة قوي واعية داخل الدولة لاتزال مصممة علي أن تنقذ البلاد من الهوة التي تردت فيها, ولو استعرنا العبارات التي استعملوها في تلك الآونة لقلنا: انهم قضوا علي هذه الخيانة العظمي وقد نجم عن ذلك نشوب حرب بين الطرفين كما تخبرنا الوثائق الحيثية, أما عنخ آسن آمون فربما انتهي بها المطاف بأن أصبحت ضمن الحريم, بعد أن جردت من لقب الملكة أو حتي من لقب الملكة السابقة. رئيس مركز التراث الفلسطيني