علي عتبات عيد الميلاد, مازالت مخيلتي- وأنا دون سن المدرسة في أثناء زيارة جدتي- تحتفظ بصور ضبابية لزفة تخرج من حارة زويلة لتلف شارع الخرنفش بالجمالية حاملة أيقونة كبيرة للسيدة مريم وبجوارها رجل عجوز بالسجن, ثم رحلت جدتي ومرت سنوات كثيرة قبل ذهابي لاستقصاء تلك الصور البعيدة. تقول الحكايات إن العائلة المقدسة مرت في الموضع الحالي ل حارة زويلة في أثناء رحلتها لمصر, وبعد أن عادت لفلسطين وارتقي المسيح إلي السماء, انتشر تلاميذه برسالته في الأرض ومنهم متياس الرسول الذي اتجه شمالا ليبشر بالمسيحية في مدينة وثنية تدعي برطس بالأناضول, وهناك علم الحاكم وأمر بالقبض عليه وسجنه هو ومن اتبعه, ثم وصلت أخبار متياس إلي العذراء لتبدأ أحداث المعجزة. حملت سحابة نورانية السيدة مريم من فلسطين إلي بوابة السجن المغلقة بسلاسل حديدية, وحينما صلت العذراء ذاب حديد السجن والمدينة كلها وتحول لماء, ولما استقصي حاكم برطس عن السبب روي له الحراس عن سيدة غريبة جاءت أمام السجن وصلت صلاة عجيبة من أجل متياس, فأمر بإحضارها علي ألا تمس بسوء, ولما دخلت عليه سألها كيف أحالت حديد المدينة لماء, أخبرته بأن من فعلها هو الله الذي تقبل صلاتها من أجل متياس الرسول. أراد الحاكم أن يستوثق مما تقول فأتي لها بابنه الذي يئس الحكماء من شفائه كي تصلي من أجله وبالفعل برأ الولد مما فيه بالحال, بعدها رجاها الحاكم أن تدعو الله كي يعيد حديد برطس إلي أصله ففعلت, وعلي الفور أشهر الحاكم إيمانه علي الملأ وأمر كل أهل المدينة بتحطيم الأوثان فيها بعد أن عاد الحديد كله جامدا. ومنذ ذلك الحين اقترنت معجزة حل الحديد باسم السيدة مريم, ولأن المصريين ولعوا بحبها, لذا وبعد مرور حوالي أربعة قرون أقاموا كنيسة في ذات البقعة التي شهدت مرور مريم وعائلتها المقدسة, ولأنهم ارتبطوا وجدانيا بتلك المعجزة, لذا أطلقوا علي الكنيسة اسم العذراء حالة الحديد تبركا بها وتخليدا لذكراها التي تحل في28 يونيو كل عام. ثم دخل المسلمون مصر وتوالي حكامهم إلي أن جاء القائد الشهير جوهر الصقلي باسم الفاطميين وشرع بإقامة القاهرة تحسبا لقدوم الخليفة المعز لدين الله, خطط جوهر المدينة من الداخل إلي حارات فكان قدر الكنيسة أن تقع في قلب الحارة التي سكنتها قبيلة زويلة, وهي إحدي قبائل البربر التي جاءت مع القائد جوهر إلي مصر, احتوي أبناء القبيلة الكنيسة بين بيوتهم ولم يتعرضوا لها بسوء, لم لا وفي القرآن الذي يتلونه سورة باسم صاحبتها مريم. ولأن الأرض التي شيدت عليها الكنيسة سنة352 ميلادية كانت تنخفض عن المستوي الحالي لأرض الحارة, لذا يتحتم علي زائرها الهبوط علي السلم الحجري بضعة أمتار, وفي الداخل سيمتزج التاريخ بصوت المياه الجوفية التي تجري في غدير صغير يلف أرجاء الكنيسة ليصب في بئر عند هيكل الملاك جبرائيل, فوق هذا الهيكل تماما أيقونات الأعياد السيدية الكبري التي تعد من أقدم الأيقونات القبطية في العالم, هذا الزخم التاريخي يليق بكنيسة عتيقة ظلت مقرا للكرسي البابوي لحوالي360 سنة. في النهاية, أدركت أن الصور الضبابية للزفات التي كنت أراها وأنا بطريقي لجدتي تخرج في الأعياد لتجوب شارع الخرنفش- لأسباب كثيرة- لم تعد الآن تتجاوز عتبات الحارة, لكن الأهم هو أن السيد المسيح حينما شاء القدر أن يعبر رضيعا في حضن أمه من حارة زويلة, ترك لنا كنيسة والدته العذراء حالة الحديد كقطعة نفيسة من تاريخ المصريين.