مصر تغيرت بشكل كبير, وتبدلت بشكل مذهل, لكن الغريب والمدهش أيضا أنها تغيرت علي طريقتها وبشكل خاص جدا, لا يشبه ما حدث في أوروبا الشرقية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق, الذي شهد إما انقلابات عنيفة ودموية علي النظام كما حدث في رومانيا التي انتهت ثورتها الشعبية بإعدام الرئيس نيكولاي شاوسيسكو, ولا هي تغيرت علي الطريقة البولندية عبر التخلص من النظام السابق, والانتقال المباشر إلي الديمقراطية. كما أن مصر لم تتغير علي الطريقة التونسية, بمعني تظاهرات من مدينة إلي أخري, استمرت نحو ثلاثة أسابيع حتي تصل إلي العاصمة, وعندها لم يجد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي مفرا سوي الهروب من بلده تحت جنح الظلام. التغيير في مصر بدأ عفويا شبابيا في الخامس والعشرين من يناير, ولا يمكن لأي قوة سياسية منظمة الادعاء بأنها كانت شريكة في هذا الحدث, حتي من شارك منها كانت مشاركته رمزية عبر عدد محدود من القيادات والشباب لم يتعد المئات, وتطور الأمر إلي جمعة الغضب التي شهدت مشاركة مصرية غير مسبوقة في التظاهر والاحتجاج شملت جميع الطبقات والأعمار والمدن والمحافظات. وكان يمكن عدم تطور جمعة الغضب لو أن الشرطة تعاملت بعقل, وأدركت حجم الغضب والحشود في الشارع, وهو ما كان يستدعي تعاملا سياسيا معها, يأمر رجال الأمن في جميع الشوارع بتأمين التظاهرات الضخمة, وعدم التعرض لها بأي حال من الأحوال, لأن سقوط جريح واحد أو قتيل واحد من المتظاهرين في ظل هذه الأعداد الكبيرة من شأنه أن يحول الشوارع جميعها إلي ساحات مواجهات بين الأمن والمتظاهرين, وهو ما حدث بسبب الغباء الأمني, وغياب الأفق السياسي. الجمعة28 يناير هي الحدث الفارق في تاريخ مصر, وليس الثلاثاء25 يناير في جمعة الغضب خرج المصريون جميعا ليعبروا عن غضبهم المشروع, منهم من هو غاضب بسبب غياب الحريات, أو بحثا عن الديمقراطية, أو بسبب الغلاء, أو بسبب البطالة, أو بسبب الفقر, وغيرها من المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تجمعت دون رابط واحد باستثناء الغضب كل علي طريقته وحسب الظلم الذي يشعر به. من هذه اللحظة بدأت عجلة التغيير تدور سريعا وأدركت السلطات السياسية أنه لم يعد ممكنا الرجوع, أو عدم الاستجابة لمطالب الجماهير, أو القيام بإصلاحات جذرية وشاملة في المجالات كافة. هكذا فتحت نوافذ التغيير علي مصراعيها, لكن بقي هذا التغيير محصورا في وجهتي نظر الأولي شبابية مدعومة بتيارات سياسية غير رسمية تري التصعيد وجر البلاد نحو المزيد من الفوضي, وصولا إلي قلب نظام الحكم بالكامل, وبناء نظام سياسي جديد تتولاه القوة الأكثر تنظيما ووجودا في الشوارع, وهي الإخوان. أما وجهة النظر الثانية فقد تبناها ما تبقي من مؤسسات الدولة, وهي قائمة علي التغيير في الإطار الدستوري القائم, بما يحفظ البلاد من الفوضي ولا يؤدي إلي سقوطها في حجر قوي ظلامية لا تمثل أغلبية المصريين المحبين للحياة وللتسامح, ومن حسن الحظ أن القوي السياسية الشرعية سرعان ما انضمت إلي التغيير في إطار النظام, وحين أدرك الإخوان أن اللحظة الحاسمة توشك أن تتجاوزهم قرروا الانضمام أخيرا إلي الأغلبية السياسية المنظمة التي تواصلت مع نائب الرئيس للتغيير مع الحفاظ علي الشرعية الدستورية, وعدم الانسياق وراء الفوضي وتركها تأكل الأخضر واليابس. هكذا وصلت مصر إلي تغييرات عظيمة وكبيرة, لكنها وصلت إلي هذه المرحلة المهمة والمتقدمة جدا عبر آلياتها الخاصة, ووفقا للحالة المصرية, والثقافة المصرية الخاصة القائمة علي الحفاظ علي النظام, حتي في أقصي لحظات الفوضي السياسية, وانهيار معظم أجهزة الدولة. ما حدث في مصر تجربة محلية شديدة الخصوصية لو حدثت في أي دولة أخري لأدت إلي فوضي عارمة, ولو حاولت أي دولة أخري السير علي طريقها ما نجحت في السيطرة علي تفاعلات الشارع, وأدت إلي حرب أهلية طاحنة. ومن حسن حظ مصر أن غالبية القوي السياسية بها تدرك خصوصية الحالة المصرية, وتعرف متي تتوقف, ومتي تغلب المصلحة العليا للوطن علي المصالح السياسية والحزبية الضيقة, لكن المشكلة الأكبر أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تدرك ما يحدث في مصر من تفاعلات, وسارعت وتعاملت مع مصر علي أنها علي وشك السقوط كما حدث في تونس, فتشددت أكثر مما ينبغي, وسمعنا عبارات مثل اليوم تعني اليوم, وهو ما يكشف عن قدر كبير من الغباء والجهل السياسي, ربما سيجعل الإدارة الأمريكية ستجتمع خلال ساعات لتبحث في الحالة المصرية, وكيف فشلت في التنبؤ بما حدث في الشارع أولا, ثم كيف تسرعت واتخذت مواقف كان أغلب المصريين يعلمون أنها لن تحدث.