ربما كانت أول ساعة ميكانيكية تدق معلنة الوقت, والساعة من تصميم أحد أهم علماء العصور الوسطي المسلمين, هو عالم الحيل الهندسية( علم الميكانيكا) بديع الزمان أبو العز بن اسماعيل الجزري المولود في بلاد الرافدين( العراق. و الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي في ديار بكر الواقعة في تركيا الحالية وللساعة تصميم غريب فهي تتكون من فيل مجوف ومملوء بالماء, وداخله وعاء مثقوب يمتلئ بالماء بحساب ليتم امتلاؤه في نصف الساعة, وعندها يغطس في الماء جاذبا حبلا مشدودا إليه, والحبل بدوره يحرك مجموعة من الأدوات تتكون من تنين صيني وطائر العنقاء ورجل عربي يقود الفيل ويمسك عصا تقرع غطاء نحاسيا لتعلن مرور نصف ساعة من الوقت. هذه الساعة العجيبة وجدت طريقها إلي النور في أيامنا هذه, فقد قام متحف العلوم البريطاني بتنفيذ نموذج لها بلغ ارتفاعه أكثر من ستة أمتار ليوضع في مدخل معرض يقام هذه الأيام في لندن. والمعرض بعنوان ألف اختراع واختراع, وهو معرض خاص عن فنون وعلوم العصور الوسطي التي برع فيها العلماء المسلمون. ويأتي المعرض كجزء من مبادرة تعليمية دولية هدفها تعريف أبناء البلدان الأوروبية بإسهامات العلماء المسلمين في العصور الوسطي في الحضارة الإنسانية, ومساهمتهم المهمة في الكثير من المخترعات التي شكلت أساسا لمخترعات حديثة عديدة مثل الكاميرا والموتور والطيران وغيرها. ويصاحب المعرض عدة افلام قصيرة عن هؤلاء العلماء ومخترعاتهم, وفي فيلم قصير( اقل من ربع الساعة) يصحبك الممثل البريطاني الكبير بن كنجسلي مع مجموعة من الأطفال ليعرفك كيف تعلم علماء العصور الوسطي العلم الكلاسيكي وكيف أضافوا واخترعوا الجديد الذي وجد طريقه إلي أوروبا ليستمر وهج الحضارة هناك وينطفئ نور المعرفة في الشرق. نحن إذن أمام مبادرة تعليمية تحترم العلم والعلماء وتسعي إلي التثقيف العلمي, والأهم من ذلك تؤكد عالمية المعرفة التي تمثلها رمزيا ساعة الفيل, فالفيل هندي ويعلوه تنين صيني ثم طائر البينو أو العنقاء المصرية وراكب الفيل وأزياؤه عربية والساعة تستخدم قانون الطفو الإغريقي, كل هذا يأتي في تناغم يجعل أحد الأطفال في الفيلم يصيح:' إنها ساعة أمم متحدة'. ورغم إنني لم أزر المعرض لكنه أتي إلي عبر الإنترنت, وبقدر ما استمتعت بالمادة المعرفية المكتوبة والمصورة والمفلمنة بقدر ما اكتأبت وحزنت مما وصلنا إليه من جهل بالعلم والثقافة العلمية, وتحجر في التعليم, ومن استسلامنا لدارويش التراث في أسوأ أشكاله فنسينا ان نكون قد عرفنا أصلا المعرفة والعلم الذي أنتجنا. والمبادرة ومعرضها وفيلمها وكتبها تثير في القلب أشجانا, كيف يتعامل العالم المتحضر والجاد مع العلم وكيف نراه نحن, وكيف يصيغ منظومته التعليمية وكيف نتعثر نحن في منظومتنا. وأكثر من ذلك كيف ننظر نحن إلي محاولات الأخرين لفهم تراثنا وثقافتنا, وموقفنا من محاولات البعض منهم جعل إنجاز الحضارة الإسلامية رافدا من روافد الحضارة الإنسانية. فعلي الرغم من إدراكي أن عقلاءنا يفهمون هذا ويقدرونه, إلا أن ساحتنا الثقافية والعلمية تنظر إلي هذه المحاولات الغربية بعين الريبة والتشكك وإن لم تنس بعضا من الافتخار الأجوف الذي يصل إلي المبالغة بأننا من علمنا البشرية كلها كل شئ. وموقفنا من تعامل الغرب مع تراثنا وعلاقته بالعلم الحديث تلخصها واقعة أظنها فريدة في بابها. وملخص القصة أنه منذ عدة أعوام نشرأحد الباحثين الغربين كتابا بعنوان' فجر العلم الحديث الإسلام الصين الغرب وكان هدف الكتاب محاولة الإجابة عن سؤال مهم, لماذا ظهر العلم الحديث في الغرب ولم يظهر في الشرق الإسلامي رغم أنه كان يمتلك من العلم والمعرفة ما يفوق أضعاف ما كان متاحا في الغرب؟. وعندما أدرك القائمون علي سلسلة عالم المعرفة الثقافية المشهورة أهمية الكتاب قرروا ترجمته. ومن ثم دفع بالكتاب لأحد المترجمين من احدي الجامعات المصرية لإتمام ترجمته. غير أن المترجم لم ترقه طريقة المؤلف في عرض موضوعه ولا أرائه فقام بالتعليق علي أراء المؤلف كلما سنحت له فرصة, وعندها تضخمت حواشي الكتاب المترجم وأصبحت الترجمة هي الكتاب ونقيضه في نفس الوقت. وأضطر المسئولون عن السلسلة إلي نشر الكتاب علي جزءين. ثم أضطر الدكتور فؤاد زكريا كبير مستشاري التحرير إلي كتابة اعتذار للقارئ في مقدمة الجزء الثاني وأن يرجوه أن يتجاهل الحواشي قدرما استطاع حتي يصل إلي جوهر فكرة المؤلف. وأخيرا اضطر مسئولي السلسلة إلي نشر الكتاب مرة أخري في ترجمة جديدة بمترجم جديد. إن موقفنا وموقعنا بين تراثنا والعلم الحديث وثقافتنا العلمية وما ينتج عن ذلك من منظومة تعليمية بحاجة شديدة للمراجعة, فنحن في حاجة ملحة للتعلم من الأخرين إن كنا نريد أن نستعيد وجودنا في الحضارة الإنسانية. وأقترح علي من يهمه الأمر أن نبدأ رحلة التعلم بالاتفاق مع متحف العلوم البريطاني علي استعارة معروضات هذا المعرض لنعرضها في القاهرة, ولم لا فالعالم يستعير منا ما لا يقدر بثمن من تراثنا المصري فليس أقل من أن نستعير منه بعض المعرفة. يأتي المعرض كجزء من مبادرة تعليمية دولية هدفها تعريف أبناء البلدان الأوروبية بإسهامات العلماء المسلمين في العصور الوسطي في الحضارة الإنسانية رغم إنني لم أزر المعرض لكنه أتي إلي عبر الإنترنت, وبقدر ما استمتعت بالمادة المعرفية المكتوبة والمصورة والمفلمنة بقدر ما اكتأبت وحزنت مما وصلنا إليه من جهل بالعلم والثقافة العلمية.