اشتعلت الحرائق في المنطقة العربية من تونس والجزائر غربا إلي العراق شرقا( حيث يطالب الأكراد بحق تقرير المصير) مرورا بانفصال جنوب السودان واستهداف الأقباط في مصر وإطاحة المعارضة في لبنان بحكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري مساء أمس الأول الأربعاء, وانفتح لبنان علي كافة الاحتمالات بما في ذلك تصعيد الأزمة بين الفرقاء حول عمل المحكمة الدولية وسط مشاعر قلق بحدوث اضطرابات تستكمل حالة فوضي الأمر الواقع في المنطقة. وعلي تلك الخلفية تعززت المخاوف من استخدام القوة المسلحة في الشارع مرة أخري ومن عدوان إسرائيلي جديد يزيد الأوضاع اشتعالا خشية أن يكون هذا التطور في لبنان( الاطاحة بالحكومة) حلقة في سلسلة استكمال الإدارة الأمريكية الحالية مخطط الشرق الأوسط الجديد عبر سيناريو الفوضي الخلاقة. وفي نفس الوقت تصاعدت المطالب السياسية والشعبية من الرئيس اللبناني ميشال سليمان بأخذ زمام المبادرة بالدعوة إلي عقد اجتماع عاجل لطاولة الحوار الوطني لانتاج حل لبناني للأزمة وعدم انتظار تكليف المرشح بتشكيل الحكومة ومشاورات التشكيل ما يطيل عمر الأزمة. لكن الرئيس محكوم بنظام سياسي ودستور طائفي, وعليه طبقا للمادة53 من الدستور إصدار المرسوم الخاص بإعلان الحكومة في حكم المستقيلة, والبيان الخاص بتحديد اجراء المشاورات مع الكتل النيابية للاستقرار علي الشخص المرشح للتكليف بتشكيل حكومة جديدة, وغالبا سيكون هو سعد الحريري في ضوء التزام الزعيم الدرزي وليد جنبلاط رئيس اللقاء الديمقراطي(11 نائبا في البرلمان) الموقف الوسطي بين الفريقين وعدم الانضمام إلي المعارضة ما يحول دون تحولها إلي أكثرية( تستطيع تشكيل الحكومة), وانتقال الأكثرية بزعامة الحريري إلي موقع المعارضة, حيث سيستمر مجلس النواب طبقا للمادة69 من الدستور في دور الانعقاد الاستثنائي حتي تشكيل الحكومة الجديدة. ووسط اتهامات المعارضة لواشنطن بإفشال المبادرة السعودية السورية لإنهاء الأزمة, ما اضطرها للإطاحة بالحكومة يواجه تشكيل تلك الحكومة الجديدة إشكالية تتعلق بالأسس والقواعد الجديدة التي ستحكم ليس فقط تشكيلها وإنما عملها أيضا, وهي بطبيعة الحال تختلف عن تلك الأسس والقواعد التي حكمت تشكيل الحكومة التي تمت الإطاحة بها, ولم تساعد الحكومة علي الصمود أمام الأزمة. وأولي تلك القواعد الجديدة تتعلق بالعلاقة بين الحريري زعيم الأكثرية وتيار المستقبل وبين سوريا في الفترة المقبلة في ضوء عودة العلاقة بينهما إلي المربع رقم و احد بعد أربع زيارات قام بها الحريري لدمشق علي مدي13 شهرا وذلك علي عكس الآمال التي تعلقت بإمكانية حدوث نقلة نوعية في العلاقة لاسيما بعد تصريحات الحريري في مطلع شهر سبتمبر الماضي التي اعتذر فيها من سوريا واعترف بالخطأ بتوجيه فريقه السياسي الاتهام لدمشق بالتورط في اغتيال والده, فقد جاءت هذه التصريحات في مسافة وسط بين لقاء زعيمي المعارضة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وزعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون في شهر يونيو الماضي والذي دشن فيه الرجلان موقف المعارضة من المحكمة, وبين اجتماع وزراء المعارضة في منزل عون والذي تم فيه الاتفاق علي اسقاط الحكومة. أما ثاني أهم تلك القواعد فتتعلق بسياسة الحريري فيما يتعلق بالعلاقة مع الولاياتالمتحدة التي اتهمتها المعارضة بإفشال المبادرة السعودية السورية, وما إذا كان بمقدوره من وجهة نظر الكتل البرلمانية المعارضة أن يمضي في المبادرة من جديد ناهيك عن التفاهم مع المعارضة علي معالجة توافقية لقضية المحكمة كشرط للانخراط في حكومة جديدة برئاسته. من هذه النقطة فإن الأوضاع مرشحة للتصعيد في حالة عدم التوافق, وستتجه الأنظار مرة أخري إلي جنبلاط لمحاولة دفعه في هذا الاتجاه أو ذاك, أو إلي قطر مرة أخري التي رعت اتفاق الدوحة لانهاء أزمة2008, باعتبار أن كل طرف يتهم الآخر بالخروج عن هذا الاتفاق, وذلك بوصف قطر راعي هذا الاتفاق. * معطيات مضامين المبادرة السعودية السورية: علي ضوء استقالة الحكومة عمليا بقوة الأمر الواقع لم تعد المحكمة الدولية وقرارها الاتهامي المفترض صدوره في قضية اغتيال رفيق الحريري بإتهام عناصر من حزب الله بارتكاب الجريمة والخلاف بين الفرقاء بشأنها هو جوهر الأزمة اللبنانية في الداخل والأطراف الإقليمية والدولية المعنية في الخارج, وانما إلي أي مدي يمكن أن تتغير البيئة السياسية في لبنان خلال الفترة المقبلة سواء لجهة إنهاء الحرب الباردة ذات الشكل السياسي والمضمون الطائفي الممتده منذ اتفاق الطائف وحتي الآن في اتجاه تسوية لاتزال مأمولة تتيح استكمال المصالحات الكبري, أو في اتجاه تحريك الوضع لكسر حالة الاسترخاء الطائفي التي اكتفي خلالها الفرقاء بالمجال الإعلامي فقط, وذلك في حالة فشل تشكيل حكومة جديدة بسبب شروط المعارضة. فقد فرض اتفاق الطائف هدن قبل أن تدخل أطراف اللعبة السياسية الطائفية خصوصا بعد اغتيال الحريري عام2005 في تحالفات واستقطابات علي أساس الموقف من حزب الله الشيعي وسلاحه, حيث شكل التحالف الإسلامي( السني) المسيحي في فريق(4 آذار) أهم ملامحها مقابل الطائفة الشيعية علي تنوعها وفي مركزها حزب الله, إلي أن استطاع الحزب انتزاع فريق مسيحي كبير( التيار الوطني الحر) بزعامة الجنرال العائد من الخارج في نفس العام بعد نفي دام15 عاما ميشيل عون إلي جانبه في أعقاب خروج القوات السورية من لبنان كون الجنرال اعتبر أن قضيته( الوجود السوري في لبنان) قد حسمت بالخروج. وبرغم خروج الزعيم الدرزي وليد جنبلاط من فريق(4 آذار) في2009 وعقده مصالحات مع سوريا وحيزب الله واهتزاز هذا الفريق من جراء هذا الخروج إلا أن المصالحة الكبري السنية الشيعية بعد توتر إثر اغتيال الحريري في أعقاب تحالفات خلال الحرب الأهلية وفي مواجهة الاجتياح الإسرائيلي حسب المبادرة كانت من وجهة نظر أطراف داخلية وإقليمية هي المصالحة المنشودة كأساس للاستقرار ولخروج لبنان من أزماته السياسية علي الأقل لوقت غير قصير. وبرغم أن العنوان الذي كان مطروحا للمسعي السعودي السوري لحل الأزمة وللتحركات الإيرانية والتركية والقطرية إلا أن تلك الجهود بدت أنها تمضي إلي أبعد من ذلك بشكل يجعل لبنان أمام خيارين, فإما أن يمضي بدوره إلي تمديد الهدنه عبر تسوية تحمل في طياتها كغيرها من التسويات أسباب انفجار مؤجل, أو إلي تحقيق تلك المصالحة التي قد تؤدي إلي ثقوب جديدة في قربة الماء. ومن ثم كان المطلوب من الفريقين اللبنانيين(14 و18 آذار) خطوات متبادلة, وتضمنت المبادرة خفض سقف أهداف كل من الفريقين المتنازعين مع تقديم اصحاب المبادرة لكل منهما نصر سياسي يستطيع كل فريق أن يقدمه لجمهوره لتمرير التسوية وحفظ ماء الوجه وبنود لحل الأزمة واحتواء لتداعيات القرار الذي لا مفر من صدوره, وأدوار قد يقوم بها رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب في هذا الشأن, لكن بما تنشغل به الأوساط الشعبية الآن هو: ماذا بعد اسقاط الحكومة؟ في ضوء انخراط لبنان أكثر كجزء من تسوية أوسع تتعلق بالوضع الإقليمي, ربما تكون قد بدأت بالعراق بتفاهم أمريكي إيراني إيران انتهي بتشكيل مرشح إيران نوري المالكي للحكومة, وتمر بمحادثات استنبول القادمة بين إيران ومجموعة5+1 حول البرنامج النووي الإيراني, ثم بلبنان بتفاهم أمريكي إيراني جديد بحضور سعودي سوري( بصرف النظر عن صدور القرار الاتهامي) يمهد للانتقال إلي المسار السوري الإسرائيلي في عملية السلام والقضية الفلسطينية. وتأسيسا علي ذلك بات المطروح الآن علي الساحة السياسية اللبنانية تساؤلات وأفكار تتعلق بمستقبل المصالحة السنية الشيعية واحتمالات للعودة إلي التحالف الرباعي, وبوضع مسيحيي هذا الفريق لاسيما القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع, وبقلق مسيحيي لبنان علي مستقبلهم, وبإمكان تأسيس تلك المصالحة لبيئة سياسية جديدة تشهد تحالفات متغيرة أو تحقق ما لم تحققه منذ الطائف!.. أو الدخول في مرحلة صراع مذهبي. في هذا السياق يشكل تحجيم وتقييد سلاح حزب الله موقفا حاكما لمسار الحركة الداخلية في الفترة المقبلة وعليه كان لافتا أن يصدر رئيس الوزراء( السني) الأسبق سليم الحص الداعم للمقاومة تصريحات يدعو فيها حزب الله بحزم إلي الحرص علي التزام الانضباط واحترام القوانين ومصالح العباد, والمقاومة إلي أن تدرك أن لا شأن لها بالداخل, وقيادة الحزب والمقاومةإلي الحذر في السلوك وفي رسم السياسات؟!! الأمر الذي اعتبرته الأوساط السياسية بمثابة رسالة لقيادة الحزب والمقاومة حول مقتضيات مرحلة ما بعد صدور القرار الاتهامي لجهة عدم تكرار أحداث7 مايو2008, والتزامات المرحلة المقبلة لاسيما في ضوء انهيار المبادرة والحكومة.