البناء والإعمار والتنمية مطلب شرعي دعت إليه الشرائع السابقة, وأكدته آيات القرآن الكريم باعتباره هدفا أساسيا من وجود الانسان علي هذه الأرض, وكانت جميع النعم التي وهبها الله للإنسان وسخرها له من عقل وشمس وهواء وبحار وأنهار وجبال وأشجار وحدائق ونباتات وأزهار وطيور ودواب وعوالم من الكائنات التي يكتشف الإنسان سرها يوما بعد يوم, كانت هذه المخلوقات تحت أمر هذا الإنسان الذي كرمه الله بأن جعله في هذه الأرض لكي يعمرها ويستخدم كل المسخرات في تنميتها لتحقيق النفع لكل البشر, ودفع الشر عنهم بصرف النظر عن دينهم أو مذهبهم. حول القرآن وآياته التي دعت للبناء والإعمار وكيف شدد علي الإفساد فيها وعقاب ذلك يقول الدكتور سعيد عامر مدير إدارة الدعوة بالأزهر الشريف أن تكريم الله للإنسان وتسخير ما في السموات والأرض له, وتفضله عليه بنعمة العقل إنما كان بهدف الإعمار في الأرض لقوله تعالي هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها أي طلب منكم عمارة الكون, التي تكون بجلب النفع ودفع الضرر, وهذا لا يكون إلا ممن استخلفه الله في الأرض, ولا يتحقق إلا بالعمل الصالح الذي قرنه القرآن بالإيمان قال تعالي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فكان الهدف من جميع الرسالات السماوية إيجاد العمل النافع في هذا الكون لقوله تعالي لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ففي الآية الكريمة إيحاء قوي بأن العمل الصالح واجب إلهي محتم للقائمين به أن يستعينوا عليه باستعمال القوة التي سخرها الله, والآلات ومنها الحديد ذو البأس الشديد لتعم منافعه علي البشرية, وقد سخر الله نعمه في الكون ليستعين بها الإنسان علي العمل النافع ودفع الضرر, قال تعالي ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلفا ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء إلي غير ذلك مما سخره الله في الكون. ويقول د. عامر أن القرآن حرص علي أن يكون الانسان فعالا في المجتمع جادا في تنميته والنهوض به فقد بين رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله وفعله فهذا نبي الله داود كان يأكل من عمل يده, وكان يقول صلي الله عليه وسلم وأنا علي جمع الحطب بل كان صلي الله عليه وسلم في مهنة أهل بيته يساعدهم ويدعو من يطلب الصدقة أن يذهب يبيع شيئا عنده, وأن يعمل ويكد اتباعا لأمر الله تعالي الذي قال فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور فهذا المنهج التنموي نجده واضحا خلال عهد الصحابة الكرام, وهذا ما يميز عصرهم من عمل صالح وإتقان وإحسان في كل شيء لأن النبي صلي الله عليه وسلم علمهم أن الله كتب الإحسان علي كل شيء. ويقول الدكتور محمد حرز الله إمام مسجد الحسين أن القرآن الكريم كان ومازال منهجا للبناء والتنمية والإعمار والإرشاد والإصلاح فقد جاء ليقوم المجتمع من ضلالات زائفة وخرافات مستحدثة أخذا بأيديهم إلي درجات الرقي والكمال أفرادا ومجتمعات, فلذلك ركز في آياته علي العمل والضرب في الأرض أخذا بأسبابها وصولا إلي التشييد والبناء, وأمرنا بأن نعمر هذه الأرض فقال هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها والنبي صلي الله عليه وسلم يقول إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها, والجيل الأول الذي تربي علي القرآن غضا طريا قوم سلوكهم وجعل منهم أبطالا وقادة يقودون الأمة والأمم ويخرجونهم من الظلمات إلي النور ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة, ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام, جعل منهم نماذج صالحة يحتذي بها ويقتدي بها, فكان في مجتمع النبي صلوات الله عليه الزارع والصانع والبناءون والمحارب والعلماء وغيرهم من كانوا نواة في بناء المجتمع والأفراد, فكانوا يفهمون القرآن ويطبقونه علي أنفسهم ومع غيرهم حربا وسلما ودعوة وإصلاحا وتهذيبا وتقويما في إطار قوله تعالي لنبيه الكريم فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. وعلي الجانب الآخر تقول الدكتورة آمنة نصير أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر أن القرآن قد حذر من الإفساد في الأرض أو تخريبها, وحذر الفرد والمجتمع من أن ينساقوا وراء ذلك حتي لا يفشلوا وتذهب ريحهم وتضعف عزائمهم فلا يجتمعون تحت راية, ولا يتحدون تحت كلمة, فقال تعالي وإذا تولي سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد. وشدد القرآن الكريم مهددا ومحذرا من يخرب الأرض ويخرج علي الجميع حرقا وتدميرا, فيهدد أمن المجتمع ويروع الآمنين, بدعوي أنهم يبحثون أو يدافعون عن الدين والدين منهم براء حيث أشار القرآن إلي ذلك في قوله تعالي إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب عظيم فالإفساد الذي نهي عنه القرآن الكريم بكل أشكاله وألوانه لا يحبه الله لأمة مدحها وجعلها في خيرية دائمة إلي أن تلقي رسوله علي حوض فيطرد منهم من يطرد فتقول الملائكة يا رسول الله إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك. وتؤكد د. نصير أن القرآن الكريم كرم الإنسان وقال يا أيها الناس ولم يقل يا أيها المسلمون, وإنما قال يا بني آدم, ويا أيها المؤمنون, ولقد كرمنا بني آدم فهذا النداء الإلهي يؤكد عناية القرآن بإنسانية الإنسان وأهميته. بغض النظر عن دينه أو مذهبه. حيث قال: إني جاعل في الأرض خليفة مهد لهذا الخليفة بني آدم الأرض وعلمه الزراعة وكرمه ونفخ فيه من روحه, وامتد هذا التكريم إلي ذريته إلي يوم القيامة وهذا ما جعل الفلاسفة تحتار في هذا السر الإلهي, فقد سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم يا محمد ها هي الروح؟ فقال له صلي الله عليه وسلم ما المسئول أعلم بها من السائل, فنزل القرآن الكريم يقول له: قل الروح من أمر ربي, هذا السر لا يستطيع الأطباء الوصول إليه لأنه سر الحياة وبانتزاعه من الإنسان تنتهي الحياة, ومن هنا كانت المساواة بين البشر جميعا, لا فضل لأعرابي علي أعجمي إلا بالتقوي, وكل ذلك يصب في قيمة الإنسان في القرآن الكريم, كما أن من تكريم الله للإنسان أن يبعثه بعد موته حتي لا يسوي بين الظالم والمظلوم, وبين من التزم أمر الله وما جاء به الرسل ومن لم يلتزم, حتي يكون التكريم للمطيع والعذاب للعصاة وأعظم التكريم للإنسان أن يري ربه يوم القيامة, وهذه الرؤية أجمل وأعظم من الجنة كنوع له من التكريم لتعميره هذا الكون وفق ما أراد الله سبحانه وتعالي.