تقترب الذكري الرابعة لاندلاع ثورة25 يناير2011 وتنشط معها هواجس مختلفة الأنواع باتت مرتبطة بها وملازمة لها, ومنها الهواجس الأمنية التي تجعل المواطنين يؤجلون رحلاتهم وحفلات زفافهم وغيرها تحسبا لأي فوضي أو أعمال عنف قد يشهدها اليوم المذكور, ومنهم من يفضل عدم النزول أصلا فيه اتقاء للشر وطلبا للسلامة.. والدولة لا تختلف عنهم في شيء, فهي تؤجل كل الاحتفاليات والمناسبات لما بعده, وتبحث تأجيل مباريات الكرة أيضا لأنها مشغولة عن تأمينها به! ورأيي أن هذا محض هراء, وأن التجربة أثبتت أن شيئا لا يحدث إلا إذا كنا خائفين, وأن كل مراد أعداء الحياة وقادتهم في عصابة الإخوان هو زرع الخوف في قلوب الناس, أما إذا نزلوا واحتفلوا وأقاموا وحكومتهم مناسباتهم ومبارياتهم, فسيلزم الفئران جحورهم, وسيتحول هذا اليوم إلي وبال عليهم. وهناك نوع ثان من الهواجس يبدو سياسيا لكنه في الحقيقة جدلي عقيم, وسفسطائي سقيم, ويتلخص في أسئلة من نوع: ثورة أم انقلاب؟ وفي ظل أي شرعية نعيش؟ هذه السفسطائية آفتنا منذ ثورة يوليو1952, التي سميت حركة, وانقلابا عسكريا, وثورة, في تباين يعكس الانقسام الشعبي المستمر حتي يومنا هذا في مصر, والذي ظهر واضحا خلال وبعد ثورة30 يونيو2013 المجيدة ضد نظام الإخوان الفاشل السابق, حيث اتفق معظم المصريين علي وصفها بالثورة, فيما أصر الإخوان وحلفاؤهم- داخل وخارج مصر- علي تسميتها بالانقلاب العسكري. ويرافق هذا الجدل نقاش آخر مستمر حول الشرعية التي تحكمنا الآن. وبعيدا عن هذا الجدل البيزنطي, الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن الشعب وحده هو مصدر السلطات وصاحب الشرعية, وله أن يسبغها علي من يشاء ويسحبها ممن يشاء, وإذا فهم جميع المصريين ذلك واستوعبوه جيدا, سينتهي الجدل حول الشرعيات المختلفة التي أرهقتنا وأرهقناها علي مدي أكثر من ستة عقود حتي صار أي نقاش يدور حولها.. ممجوجا ومملا وسخيفا. فقد ظللنا نردد أن شرعية ثورة يوليو هي التي تحكمنا حتي نصر أكتوبر1973, حين ظهر تعبير شرعية أكتوبر, ربما لكي يتخلص السادات ونظامه من إرث عبد الناصر ونظامه, ويصنع تاريخا مستقلا يزينه النصر, لكن ذلك لم يحدث.. وفي عصر مبارك, استمر العزف علي نغمة شرعية أكتوبر لأنه شارك في الحرب وكان أحد قادتها, لكن ظلت شرعية يوليو أقوي وأعلي صوتا لأن السادات ومبارك معا- وجميع المنتمين إلي جيليهما ونظاميهما- خرجوا من عباءة يوليو وما أتاحته من تعليم مجاني وفرص اجتماعية متساوية.. إلي آخره. ولم تنزل شرعية يوليو من علي عرشها فعليا إلا بعد قيام ونجاح ثورة25 يناير2011 بصورة شعبية مدنية مبهرة, وإن كانت حظيت بالحماية العسكرية.. وقتها ظهرت شرعية يناير, ثم حدث ما حدث في30 يونيو, حين أبهر المصريون العالم, وحبسوا أنفاسه وهو يتابع خروج حشودهم إلي ميادين وشوارع مصر لإسقاط نظام جماعة الإخوان, في أعداد هائلة قدرتها بعض المصادر ب32 مليون شخص, وقالت إنها من أكبر التظاهرات الشعبية في التاريخ, إن لم تكن أكبرها علي الإطلاق. هكذا ظهرت شرعية يونيو في حياتنا السياسية, وهي التي أعتقد أنها ستبقي وتستمر لأنها ممنوحة من الشعب.. وإذا كان الإخوان يتحدثون عن انقلاب عسكري, فقد نسوا- ولعلهم يجهلون- أنه لا يوجد انقلاب بموعد مسبق ومعلن, ولا يوجد انقلاب تدعمه وتسانده مظاهرات شعبية بمشاركة32 مليون شخص, ولا يوجد انقلاب لا يتولي بعده قائد الجيش مقاليد السلطة ولا يفرض بعده الأحكام العرفية. وفي كل الأحوال, آن الأوان لكي نتوقف عن الجدل حول الشرعيات الذي أربك المصريين البسطاء وجعلهم لا يعرفون بالضبط أي شرعية تحكمهم.. آن الأوان لكي ندرك أن الشرعية للشعب وحده, وأنها منه وإليه, وأن الفضل يعود إليه وحده, وإلي دعمه ومساندته, في نجاح ثورة يوليو وكل الثورات التي تلتها.