حل أمس موعد الساعات القليلة التي نكتفي بها في العام كله لنخلو إلي أنفسنا, لا لنحتفل بذكري صدور الأهرام المسائي فقط, ولكن لنتذكر ساعات ليست كغيرها, وأياما فريدة في عمر الوطن كله وليس في عمر صحيفتنا فحسب, وأعواما من العمل والسهر والقتال أشقتنا بقدر ما أسعدتنا, وعلمتنا بقدر ما أنهكتنا, ومنحتنا في النهاية أغلي مكافأة لحاملي الأقلام: ثقة القارئ وحبه. التفت أسرتنا أمس كما يحدث في أي بيت مصري حول كبارها, وفي مقدمتهم المؤسس ورب الأسرة الأستاذ مرسي عطا الله, ورئيس التحرير الصديق والزميل علاء ثابت, والكاتب الصحفي والفنان الكبير سعيد عبد الغني, وكان شعار الاحتفال: المستقبل, وسبل حفاظ هذه المطبوعة علي ما حققته في قلوب وأذهان قرائها, ووسائل البناء علي ما تحقق والانطلاق إلي آفاق أبعد بفضل شباب الصحيفة وأجيالها الجديدة من المحررين المجتهدين. نعم.. الاحتفال عندنا ليس كعكة أو شمعة, فالوضع في الأهرام المسائي مختلف. صحيفة شبهها الكثيرون ب قسم الشرطة, لا تغلق أبوابها أبدا, وتصل الليل بالنهار, ويعمل أبناؤها بروح الكتيبة المقاتلة التي خاضت معركة التأسيس والإنشاء عام1991 مع انطلاق أول رصاصة في حرب تحرير الكويت. جنود تحت غبار الحرب الإقليمية الكبري كانوا يخوضون معركتهم الخاصة لاحتلال موقع علي خريطة الصحف اليومية المصرية, برئاسة القائد العسكري مرسي عطا الله, الذي لم يكن ينتمي للمدرسة العسكرية مجازا بفكر الالتزام والانضباط فقط, بل كان انتماؤه لها جزءا من تاريخه وتكوينه, كمساعد للمتحدث العسكري في حرب أكتوبر المجيدة. شرفت بحضور أول اجتماع عام لمجلس التحرير, وفيه وصفنا مرسي عطا الله ب الكتيبة المقاتلة, وطالبنا بأن نستمر في العمل بهذه الروح, لكنني وقتها لم أكن أتصور أنها ستستمر إلي يومنا هذا, وأن حربنا الصحفية لم ويبدو أنها لن تضع أوزارها. في أي مشروع لإصدار صحيفة يومية, سواء صباحية أو مسائية, تستمر الاستعدادات والتجهيزات لشهور, وأحيانا لأعوام, وتصدر عشرات الأعداد التجريبية, المسماة الزيرو, حتي الاستقرار علي الشكل النهائي, والتبويب النهائي, لكن الوضع في الأهرام المسائي مرة أخري كان مختلفا. كان الأمر يتعلق بساعات وليس بشهور, ولا حتي بأيام, فقد طرأت فجأة فكرة إصدار أول صحيفة مسائية عن مؤسسة الأهرام, خاصة أن السوق كانت متعطشة, ولم يكن فيها سوي صحيفة مسائية واحدة هي الزميلة المساء. لم يتح الوقت الضيق سوي فرصة إصدار عدد تجريبي واحد, حيث كان هناك اتفاق علي طرح المولود الجديد في الأسواق مع بدء الحرب. وما إن أصبح العدد الزيرو بين أيدي المؤسسين, حتي هدرت مدافع التحالف الدولي معلنة بداية الحربين معا: تحرير الكويت وإصدار الأهرام المسائي! الأربعاء16 يناير1991 هو تاريخ العدد التجريبي, وفي اليوم التالي: الحرب والصدور, في عدد أول لا ينسي ستكون لنا وقفة معه, لكن لابد أولا من نظرة علي الظروف المحلية والإقليمية التي واكبت صدوره. كانت أجواء الحرب تخيم علي كل شيء, فقد كانت مصر مشاركة في التحالف الدولي الذي تولت قواته طرد العراق من الكويت, وكان المصريون منقسمين حول ذلك, وحول ما إذا كانت المهمة ستدور علي أرض الكويت فقط أم أن العراق نفسه سيضرب, وهو ما كان معظم المصريين يرفضونه. لا أريد أن أبدو مثل المسنين الذين يتحدثون عن أسعار الخبز والبيض في أزمنتهم, لكن عندما صدرت الأهرام المسائي كانت هواتف مؤسسة الأهرام مكونة من ستة أرقام فقط, وكان سعر الصحيفة25 قرشا, وهو سعر كان يعتبره الكثيرون وقتها مبالغا فيه, لأن الصحف حتي وقت سابق قريب كانت بخمسة قروش فقط. أما العدد الأول الذي أصابني ب فيروس حب الأهرام المسائي, فقد صدر في عشر صفحات مثل التجريبي, وكان المانشيت محددا ومؤثرا: الحرب بدأت عاصفة ومدمرة. ظهر اسم مرسي عطا الله كرئيس تحرير تنفيذي, فيما تولي إبراهيم نافع, رئيس مجلس الإدارة وقتها, كتابة المقال الشمال في الصفحة الأولي بعنوان: هذه الحرب التي ما كنا نتمناها. كان هناك اعتقاد عام داخل مؤسسة الأهرام وخارجها بأن الأهرام المسائي لن تستمر, وأن مصيرها إلي التوقف مع انتهاء أزمة الخليج, لكن ما راهنا عليه جميعا حدث بحمد الله, وواصلنا المشوار, ولعل ذلك ما دفع الأستاذ مرسي عطا الله إلي أن يكتب مقالا في العدد التذكاري الصادر في العيد الأول للصحيفة بعنوان: لم نتوقف كما تنبأوا. كنا في تحد دائم مع النفس والآخرين, نصل الليل بالنهار ولا نلتقط أنفاسنا إلا بعد النزول للمطبعة والاطمئنان إلي دورانها. كم سهرنا أمام فوانيس أو بنورات المونتاج, التي كان الفنيون يفردون الصفحات عليها للصق ورق البرومايد الذي يحتوي علي المادة أيام الجمع التصويري, وكم اختصرنا بمعرفتهم ب الكتر والمسطرة الحديد لكي تقفل الصفحة, وكم لسعتنا ماكينة الشمع التي كنا نمرر سلخات البرومايد عليها لكي يمكن لصقها بعد ذلك علي الصفحات, وكم ذهبنا بهذه السلخات إلي قسم ال ام. في. بي لكي نحول موضوعا من ثلاثة أعمدة مثلا إلي اثنين أو العكس. لذلك كانت سعادتنا كبيرة عندما حدث التحول الكبير الأول وأصبح توضيب وتجهيز الصحيفة يتم بالكمبيوتر, أو ما أطلق عليه الماكنتوش وهو التحول الذي احتفلت به أسرة التحرير وتم نشر موضوع مصور عنه, في العدد الذي صدر الأحد17 يناير1993 احتفالا بعيد الميلاد الثاني. بالأمس تذكرنا خبطات وملفات لا تنسي في مسيرتنا, ومنها المانشيت الشهير زلزال العصر الرهيب والعدد الخاص الذي صدر عن الأهرام المسائي صبيحة زلزال12 أكتوبر1992 الشهير. وأقول خاص رغم أنه لم يكن رسميا كذلك لأن صفحاته ال12 خصصت كلها لتغطية الزلزال, ويومها عملت أسرة التحرير كلها في خدمة الحدث الجلل, ولعله اليوم الوحيد في حياتي الذي عملت فيه بقسم الحوادث والقضايا. في تاريخ الأهرام المسائي الكثير من هذه الأعداد الخاصة لتغطية الأحداث الكبيرة, من اغتيال المفكر فرج فودة إلي الثورتين المصريتين المجيدتين في يناير2011 ويونيو2013, مرورا بأحداث11 سبتمبر2001, وغيرها الكثير, حتي اشتهرت الصحيفة بتألقها في الأزمات, وقدرتها علي تغطية ما لا تلحق به الصحف الصباحية بسبب مواعيد طباعتها. تحولنا إلي أسرة واحدة بمعني الكلمة, بكل ما في الأسرة الواحدة من اتفاق واختلاف, وشجار في بعض الأحيان, لكن كان كل ذلك ومازال يجري علي أرضية البيت الواحد الذي لايريد أحد أن يهجره أو يهدمه, مهما يكلفه ذلك من تضحيات. وهكذا نواصل المسيرة حتي اليوم, بحساب زمني خاص بنا, فسنوات السهر والشقاء والحلم والتعب والعرق والكفاح لا تعد أو تحصي مثل غيرها, بل يعرف كل من خاض هذه التجربة الفريدة في تاريخ الصحافة المصرية والعربية أن كل منها بعشر مما يعدون! ولأننا بتوع شغل ولسنا بتوع احتفالات, فنحن نكتفي- في معظم أيام17 يناير من سنواتنا ال24, كما فعلنا أمس, بتورتة صغيرة نطفئ شموعها سويا, ثم ننصرف إلي عملنا اليومي, وفيروس حبنا الابدي!