ها هي الذكري الخامسة لذلك الرجل الأسطورة، لم يتوقف الحديث عنه يوما، ذكراه تطرز القلب بالحنين إلي بيته في حضن الحارة الضيقة، كثيرا ما لعبنا فيها، يصحبني زوجي وبناتي الصغار إلي هناك، لنكمل عقد العائلة الذي تتلاقي حباته فقط في هذا اليوم، وما تلبث أن تنفرط. رائحة العطن تملأ المكان، النوافذ مغلقة، يسكنه الآن أصغر أخوالي، وتستقبلنا زوجته علي مضض في هذا اليوم، ندلف إلي غرفة الجلوس حيث وصل البعض وننتظر الباقين، تدور عيني كطفل أفلتت يده ثوب أمه في سوق مزدحمة، أفتش المكان فقد اختفت صورة جدي بعصاه المعوجة وعمامته البيضاء، واحتلت مكانها صورة أخري. أثاث المنزل تبدلت ملامحه، فارقت الأشياء حضن أماكنها، أنظر في الوجوه، أتمني بكلمة، كأن علي رءوسهم الطير. يطرق الباب الشيخ إبراهيم محفظ القرآن بالقرية، ليبدأ مراسم الاحتفال أقصد الختمة، تضيق ابنتي بما يجري، تطلب التجوال بالبيت كأنها تقرأ ما بداخلي ، نطوف جنبات البيت، نمر إلي الوسعاية خلف البيت عبر باب صغير،ذكري البخور تراود أنفي، هنا كانت خلوة جدي ومحبيه من أهل الطرق الصوفية، أختلس النظر، وأفتح نوافذ السمع علي مصراعيها أثناء الحضرة، حلقة الذكر، صوت جدي يطربني، يهزني، يجعلني أسبح في ملكوت آخر: »ومدحت بطيبة طه.. ودعوت بطه الله«.. كم أحببتها با جدي منك! كم أتمني أن أسمعها منك الآن! تلك الحجرة مفروشة بحصير من البردي، كان جدي هنا تمس عصا حكمته مشكلات العائلة، والجيران، فتحيلها بردا وسلاما، أرهف السمع علي أسمع أصداء التراتيل ومجالس علمه. تفلت طفلتي يدها وتجري ناحية الفرن القديم، صار كقبر تعشش فيه الحشرات والهوام، هذا الفرن كم أطعمنا وأصحاب الحاجات: الخبز والفطير والطواجن العامرة باللحم والخضر الطازجة من غيط جدي وزرع يده! كم جمعتنا مائدة جدي بعم ميخائيل وأسرته! كم عشقت أيام الجمعة والعطلات هنا! تهب علي خيالي نسمة طرية تحمل رائحة الريحان، كان يزرعه جدي هناك، وتظلنا أفرع اللبلاب وتكعيبة العنب، أجري مع ابنتي حتي نصل حيث كان الزير المندي في ظل شجرة التوت، لأجد جذع الشجرة حطبا يابسا، ولا أثر للريحان ولا اللبلاب ولا العنب، علي صوت تلاوة الشيخ إبراهيم أعود حزينة، تأمرني أمي بإعداد الطعام، وتقديم القهوة مع النساء بالداخل، أمي التي لم تأخذ ميراثها وتركته وقفا للاحتفال بذكري جدي يوما واحدا كل عام، ها هي يعضها الندم ويضنيها إحساسنا بغربة في البيت الذي تربيت وكبرت فيه، فزوجة خالي وأهلها يبسطون سطوتهم علي كل شئ ,خرجت تسندني ابنتي وزوجي، يمسحون دمعي وأنا أنوح: