ومضت مقالتان أسلمتانا إلي الثالثة والأخيرة حاولنا التأكيد علي خطورة الجرائم العقلية وتوابعها التي لا تنقضي بين عشية وضحاها, بل تحتاج عناية مركزة من القادة والقائمين علي التعليم والتربية وكل ما له صلة بصناعة الفكر والإنتماء والوجدان المجتمعي. جرائم منذ أزمان خلت وهي تسكن( المحروسة) أثمرت أفكارا شيطانية تتوارثها جماعات أتقنت فنون التخفي والتمويه, فعددت أسماءها( اخوان- قاعدة- جهاد- داعش...) وغيرت الهوية أو القناع( سني- سلفي- نور- اجتماعيات- قوافل الخير...), وكلها محاولات دموية ظاهرها الرحمة لتحقيق نبوءة كبيرهم عن( أستاذية العالم), استطاعوا بمظاهر إنسانية أو أقنعة لا فرق السريان في عروق المجتمع, فاستقطبوا المريدين والإخوان, ساعدهم في ذلك أن بلادنا والعالم الثالث تعتبر سجونا مفتوحة كما وصفها أشهر شعراء( بولندا), التي أرغمت الناس علي تقديس الحاكم والتسبيح بحمده, فتحولت المجتمعات إلي ديكتاتوريات بلغت من العمر عتيا, سرعان ما فتكت بها جماعات( التدين) عقيب إنهيار أو إطاحة أو ثورة البشر ضد الحاكم المقدس..! إن ذاكرة التاريخ ومحكمته التي لا تخطئ الأحكام, ستروي للأجيال القادمة جرائم الحكام العقلية ومدي الخراب الذي أصاب البلاد والعباد بسببهم, وبدون تفصيلات مطولة القارئ أعلم بها, يظل المشهد- اليوم- مشهدا معقدا مثقلا بميراث من الجرائم العقلية التي نعاني نحن أوجاعها, فهي تسري في عروق المجتمع وهنا ترتعد أوصالنا خوفا من أن تطل علينا الخيارات التي أراها محصورة بين: حكم تقوده القبضة العسكرية أملا في السكينة وطمأنينة المواطن وصيانته من أشكال الترويع, أو ما بين استنساخ النظام القديم بتراكماته لمن يراه الأفضل لما لحق بنا من صنوف الفوضي والجريمة وبذاءة السلوك..!! إن ما تمر به( أم الدنيا) مرحلة مفصلية بين عهدين هي الأخطر في حياتها, أظنها فترة إنذار( لمن خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) علينا مذاكراتها وتدبرها خشية تكرار المآسي التي حولنا فعلي مدي التاريخ رأينا هذه الظاهرة تتكرر لأن أحفاد الفكر الشيطاني نسلهم غير مقطوع, وهو ما يدفع الحاكم للتوكيد علي علاج الأفهام والأفكار بترسيخ حملة فكرية سرمدية لصيانة الأفكار والمعتقدات لنعصمها من تيارات التكفير والتغريب, ثم عليه تحري الدقة فيمن يقومون علي إصلاح التربية والتعليم والثقافة والإعلام فلا سبيل أمامنا غير الإصلاح الشامل( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير), حينئذ لن تجد الجماعات ما يبرر وجودها ولن تجد ذرائع التكفير والترويع, فلا يختلف عاقلان علي أن احتكار السلطات يورث العداوات ويزلزل الحياة المعيشية للمواطنين التي تنعكس سلبيتها علي النظام, فيصبح صيدا ثمينا لدعاوي التطرف والتكفير, فما أصعب الإحساس بالتهميش والضياع..!! علي الحاكم رعاية الفقراء لأنهم غالبية المجتمع, ثم كيف يرتضي الحاكم علي نفسه وفي الرعية من يعاني العوز..! إن الأمر جد خطير ومع ذلك فالعلاج ميسور عندما ننشر بساط العدل والقيم الرصينة, ثم بسط الحريات والحقوق وعدم إحتكار الأرزاق في أيدي حفنة فيصبح المجتمع( أسياد وعبيد).!! إن أحوال( أم الدنيا) إن لم يقودها الربان إلي بر الأمان فستكون مقدمة للكوارث والعواصف, فعليه بإصلاح النفوس قبل إصلاح البلاد, ودائما نستدعي الماضي للعبرة والإفاقة, فكم كنا نري: أننا بخير, وكل شئ علي ما يرام, وأننا يا سيادة الريس في الطريق الصحيح للنهوض وفق توجيهات سيادتكم, وغيرها من عبارات الدجل التي تروج في عصور الحكام المقدسين والزعماء العباقرة الذين لا شبيه لهم منذ بدء الخليقة..!! إن عدم مواجهة هذه العلل المتوطنة التي نخرت عظام( المحروسة) مواجهة ناجزة لا تقل خطرا عمن يهرب من ميدان المعركة, اعتقد أن عقوبته( الإعدام رميا بالرصاص)..! فما أحوجنا إلي هذه العقوبة في كل قطاعات( أم الدنيا) التي( عشش) فيها الفساد تتوارثه قوافل العاملين والمسئولين فلن يستقيم الميزان المصري العتيد بغير الخلاص من هذه الأورام الفاسدة, فليس( الرصاص) عزيز المنال؟!, ففي الدواء شديد المرارة والإيلام علاج كثير من الأمراض..!! علاج يثمر إصلاحا معرفيا ويصنع عقلا جمعيا قادرا علي مواكبة السائرين في درب الحداث والتحضر, وكما يقول أحد المفكرين عن هذا العقل: يخلق بكل سيادة وهيبة أفضال المعرفة, لكن الآن نفسه يقر بنسبية المعرفة ونسبية الحقيقة, بعد مغادرته منطقة اليقينيات وتحرره من الأنساق والمذاهب الشاملة. إن البلايا التي حلت بنا لن تقف عند حد صراع علي هوية أو مذهبية, بل هي صراعات تدميرية لا تعرف غير هدم الجيوش( القوة), وحز الرؤوس, وإهدار الدماء, ومن الأعاجيب أن كل ذلك يتسربل بالتدين والعقيدة..!! إننا نعاني مشكلات وأزمات بلغت من العمر أرذله مضافا إليها مستحدثات شرور العولمة, غرست أبناءنا وفي دوائر الجرائم العقلية والتيارات المستوردة والأفكار المسممة, وهو نذير شؤم لأن مشاكلنا الداخلية قد تفوق مشاكلنا الخارجية, فلا بد للحاكم أن يسعي إلي تكوين رأي عام شديد الإيمان بالواجبات والحقوق, رأي عام يهابه المتطرفون والنهازون, علي الحاكم أن يرسي قواعد الايثار والتضحية, فالحاكم بمعناه الحقيق: مغرم لا مغنم, فهو خادم لأهل وطنه فهو نائب عنهم..!! إن العالم حولنا لا يأخذ بأيدي الضعفاء, لأنه يقوم الحياة بالقوة لا بالضعف, ويبقي أن الفرق بين الأمة الراقية والأمة المنحطة: أن الثانية مليئة بالجرائم العقلية والمفسدين.