المجتمعات مثل كل الكائنات الحية تمر بدورات من التطور والسعي إلي النضج من خلال تحويل الأحلام إلي واقع, والنظريات إلي تطبيقات, والقيادات إلي مؤسسات, والقوانين إلي تقاليد ويحدث ذلك عادة من خلال التطور والنضج الذي يأتي لكل مكونات المجتمع من أفراد وجماعات ومؤسسات وقوانين يستلهمون التغير فيها من تجربتهم الخاصة, والتجارب الأخري التي ينظرون إليها, ومدي التعقيد الجاري في المجتمع من حضر وريف, وصناعة وزراعة وتجارة وخدمات, وصلة وعزلة عن بقية العالم; والأهم من ذلك قيادة نخبة صغيرة لعملية توجيه وتحريك التطور حتي يسير بطريقة مقصودة إلي حيث يجب له أن يسير. الانتخابات المصرية الراهنة لمجلس الشعب حلقة من هذه الحلقات التي يجري فيها التطور الذي تراه الآن مرأي العين وكأنه يجري أمامك كما تجري أحداث فيلم تليفزيوني أو سينمائي تتوالي فيه الوقائع والأحداث, ولكنها كلها تشكل حزمة من حزم التغيير الذي يلتبس فيه ما هو إيجابي مع ما هو سلبي. لقد مضي الفصل الأول من الانتخابات النيابية يوم الأحد الماضي, وبقي فصل آخر يوم الأحد القادم للإعادة. وليس المجال هنا لتحليل الانتخابات حتي تنتهي فصولها, ولكن المجال متاح بالتأكيد للنظر فيما نراه من متغيرات, فمصر لم تعد علي حالها منذ آخر انتخابات تشريعية في خريف عام2005, وقد تبدو خمس سنوات من عمر الشعوب فترة قصيرة للغاية, وبالنسبة لشعب ودولة عاشت آلاف السنين فإن خمس سنوات لا تزيد علي غمضة عين. ولكن السنوات لا تقيم بقدر ما فيها من زمن, وإنما بقدر ما فيها من متغيرات, وقد تغيرت مصر كثيرا خلال هذه الفترة. ولا يوجد ما يقلب بلدا رأسا علي عقب قدر تحقيق معدلات نمو مرتفعة وهو ما حدث بمتوسط نمو قدره حوالي6% وهو ما لم تحققه مصر منذ نهاية السبعينيات إلا لفترة قصيرة وكانت هي الأخري سببا في انقلاب المجتمع المصري رأسا علي عقب. ولكن هذه المرة فإن الظاهرة لم تكن مرتبطة فقط بسياسات للانفتاح, وإنما بسياسات تغير من البنية المالية والاقتصادية, وبالتالي الاجتماعية للبلاد. لقد أعطت سياسات الضرائب والجمارك والمعاشات ضوءا أخضر لانقلاب في المجتمع المصري أعطي الشريحة الرأسمالية قدرات كبيرة علي الانطلاق في مجالات التصدير والتوسع العمراني غير مسبوقة, وبينما كان المجتمع المصري يحتاج عشرات السنين لكي يقيم تجمعا سكانيا أو إنتاجيا مثل مدينة نصر بالقاهرة أو مديرية التحرير أو منطقة الصالحية فإن خمس سنوات فقط شهدت نضج مدن شرم الشيخ والغردقة والتجمع الخامس والسادس من أكتوبر; ومولد مرسي علم والعين السخنة ورأس سدر. وفي العموم فإن العقد الأخير شهد ما بين النضج والمولد23 مدينة مصرية يقطنها4 ملايين نسمة تغير التركيبة الديمغرافية/ الجغرافية للبلاد كما لم يحدث منذ مولد مدن قناة السويس. ومع الجماعة الاستثمارية اتسعت الطبقة الوسطي, وظهرت الجامعات الخاصة لكي تمد البلاد بما تحتاجه, وبعد أن كان المواطن المصري يعتمد علي الإعلام الأجنبي والعربي خاصة ممثلا في قناة الجزيرة بات يعتمد إلي حد كبير علي الإعلام المصري الذي بات لأسباب متعددة جزءا من العملية السياسية في البلاد. فلم يسبق أن كان في البلاد21 صحيفة مطبوعة أو54 قناة تليفزيونية منها31 أو57% ملكية خاصة; وببساطة انتهت سطوة الخارج, وسطوة الدولة علي الإعلام المصري وبات ممكنا لكل من لديه وجهة نظر أن يبديها من خلال القناة أو الصحيفة التي يفضلها, وما لم يجد صحيفة أو قناة فإنه ينشئها بطريقته المفضلة علي موقع خاص أو مدونة خاصة علي الشبكة العنكبوتية لكي تصل إلي20 مليون مصري. انتهت إذا كل الظروف الموضوعية التي تجعل الانتخابات كما كانت سواء في العهد الملكي أو العهد الجمهوري, وبات علي الحزب الوطني الديمقراطي أن يجدد نفسه فكريا وتنظيميا بحيث يصبح حزبا ديناميكيا ممثلا لجبهة وطنية واسعة تأتي إليها قوارب من جهات فكرية متنوعة ولكنها في النهاية تركب سفينة واحدة يحرص الجميع علي حمايتها من الغرق. كل ذلك كان حاسما في عملية اختيار الأحزاب السياسية المصرية ما بين المقاطعة والمشاركة في الانتخابات; كما كان حاسما في طريقة إدارة الحزب الوطني الديمقراطي للعملية الانتخابية التي سلم فيها بالإدارة للجنة العليا للانتخابات, بل وجعل الإعلام التابع للدولة يوزع وقته بالعدل والقسطاس, وأكثر من ذلك يبدأ تقليدا جديدا لإقامة المناظرات بين الأحزاب الكبري في البلاد حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية. الأمر اللافت للنظر أن الحزب الوطني الديمقراطي بات ينظر للمعركة الانتخابية ليس باعتبارها غزوة كما فعل الإخوان المسلمون, ولا حتي باعتبارها معركة كما اعتبرتها بقية الأحزاب, وإنما هي حالة تنافسية تدار في إطار القانون. ومن ثم لم يكن مدهشا كثيرا أن يقدم الحزب الوطني الديمقراطي بلاغا إلي النائب العام, حيث تقدمت أمانات الحزب الوطني في عدد من المحافظات ببلاغ إلي النائب العام للتحقيق في واقعة قيام مجموعة من الأفراد من المنضمين لتنظيم غير مشروع( الإخوان المسلمين) بمباشرة نشاط سياسي بالمخالفة لأحكام الدستور والقانون, والترشح لانتخابات مجلس الشعب باسم التنظيم وتحت عباءته, وهو الأمر الذي يخالف القانون. وقد استندت الأمانات إلي معلومات مشفوعة بأدلة تؤكد أن ذلك التنظيم غير المشروع قام بإصدار تكليفات لعدد من المنضمين إليه للتقدم بأوراق ترشيحهم لخوض الانتخابات علي أنهم مرشحون مستقلون, وذلك علي خلاف الحقيقة التي تؤكد أنهم منضمون لهذا التنظيم غير المشروع. وقد طلب الحزب الوطني في بلاغه التحقيق في هذا الأمر, باعتبار أنه يمثل تحديا سافرا للدستور والقانون, فضلا عن خروجه علي الأحكام المنظمة للانتخابات النيابية. ويؤكد الحزب الوطني أن عدم التصدي لهذا الأمر من قبل الأحزاب السياسية الشرعية والمجتمع ككل من شأنه أن يهدد الحياة السياسية, ويقوض من دعائم الشرعية الدستورية. وتنص المادة(1) من الدستور علي أنجمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل علي تحقيق وحدتها الشاملة. كما تنص المادة(5) من الدستور علي أن يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية علي أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور. وينظم القانون الأحزاب السياسية. وللمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية وفقا للقانون ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أي مرجعية أو أساس ديني أو بناء علي التفرقة بسبب الجنس أو الأصل. والمادة(55) من الدستور تنص علي أن للمواطنين حق تكوين الجمعيات علي الوجه المبين في القانون, ويحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معاديا لنظام التجمع أو سريا أو ذا طابع عسكري. وبينما أشار محمد بديع المرشد العام لتنظيم الإخوان غير الشرعي في حوار له مع برنامج بلا حدود الذي يذاع علي فضائية الجزيرة قبيل الانتخابات إلي أن المؤشرات التي ظهرت حتي الآن تؤكد أن النظام قد أدمن التزوير ولا يستطيع المنافسة في أية عملية انتخابية, فإن المادة(88) من الدستور تنص علي أن يحدد القانون الشروط الواجب توافرها في أعضاء مجلس الشعب, ويبين أحكام الانتخاب والاستفتاء, ويجري الاقتراع في يوم واحد, وتتولي لجنة عليا تتمتع بالاستقلال والحيدة الإشراف علي الانتخابات علي النحو الذي ينظمه القانون ويبين القانون اختصاصات اللجنة وطريقة تشكيلها وضمانات أعضائها علي أن يكون من بين أعضائها أعضاء من هيئات قضائية حاليون وسابقون, وتشكل اللجنة اللجان العامة التي تشرف علي الانتخابات علي مستوي الدوائر الانتخابية واللجان التي تباشر إجراءات الاقتراع ولجان الفرز علي أن تشكل اللجان العامة من أعضاء من هيئات قضائية, وأن يتم الفرز تحت إشراف اللجان العامة, وذلك كله وفقا للقواعد والإجراءات التي يحددها القانون. معني ذلك أن إطلاق الاتهامات علي عواهنها لم يعد مقبولا وإنما ينبغي أن يكون منضبطا بالإطار القانوني والدستوري الذي ارتضاه كل من شارك في الانتخابات وهو تقريبا ما التزمت به معظم الأحزاب سواء حزب الأغلبية أو أحزاب المعارضة المدنية. أما تنظيم الإخوان فقد كان وحده الذي أراد التلاعب بالمفارقة ما بين تحريمه كتنظيم هدفه تغيير طبيعة الدولة المصرية, وكأفراد مصريين من حقهم ممارسة حقوقهم السياسية. ما سيحدث بعد ذلك لا يزال كتابا مفتوحا, فربما تجري تحولات عميقة داخل حركة الإخوان تتيح لها العبور إلي تقاليد الدولة المدنية, أو أن مصيرها سوف يكون كما كان مصيرها طوال العقود الثمانية الماضية حيث الفشل التام في تحقيق أهدافها في تدمير الدولة المصرية المعاصرة وتحقيق انتقالها لكي تكون مثل تلك التي في إيران وأفغانستان. [email protected]