من المعرفة المسلّم بها أنّ المجتمع مثل الكائن الحي تنطبق عليه وتحكمه قوانين التطوّر، يستحيل أن يبقي علي قيد الحياة بدون تغيير قد يكون في اتّجاه الارتقاء أو اتّجاه التدهور، ربّما كان ناتج التطوّر في الكائنات الحيّة هو الوصول إلي الإنسان متميّزا بعقله يرتقي أو يتدهور بمقدار استخدام دماغه في أدغال مايحيط به من ظروف .لم يكن هذا أمرا سهلا بالنسبة للأفراد ، واستغرق الإنسان مليوني سنة من التطوّر ليصل إلي وضعه الراهن ، ولاتزال الحياة تفرض عليه التطوّر والارتقاء ليواجه مهامّه في غزو الفضاء والاستنساخ وصناعة الخليّة الحيّة كما أعلن مؤخّرا. والأمر أصعب بالنسبة للمجتمعات، حيث يصعب ترجمة التغييرات هائلة العدد والتنوّع في البيئة والأفراد إلي تسلسل واحد منتظم وعقلاني يوجّه قدرات الفرد والمجتمع، ولقد استمرّ الشعب البريطاني والفرنسي يتخبّط دمويا من نظام إلي آخر بطريقة ردّ الفعل ويخبط رأسه في حواجز مسدودة هروبا من التدهور وبحثا عن الارتقاء. ولاغرابة أن تمرّ مصر بمراحل مشابهة،فماكادت تتنسّم رائحة الليبرالية وتتعرّف علي المعارضة بمعناها كتداول للسلطة بين حكومات الوفد - التي لم تحكم أكثر من ستّ سنوات - وحكومات موالية للقصر والاستعمار،حتّي قامت بها حركة يوليو 52وتمّ تدشين سياسة الحزب الواحد، التي لم تكن فيهامصر أيضا بدعة ، بل كان العالم النامي كما يسمّونه في الخمسينيات والستّينيات يجد تطوّره في هذا الأفق من الشموليّة. نمضي ومعضلتنا الرئيسيّة كيف نعارض؟ نري من الطبيعي أن تكون لنا وجهات نظر متعارضة حول الحاضر والمستقبل وتفسير الماضي،بينما نفشل في بناء إطار سليم للمعارضة من أحزاب تعبّر عن التكوين الاجتماعي كمحصّلة للمواقف الفعليّة الصادرة عن الرأي العام وقد صقلتها ووضّبتها الأداة الحزبيّة. تكتسي الأحزاب التي ولدت في مصر عن الاتّحاد الاشتراكي بطابع خاصّ تفرضه النشوء من رحم السلطة المركزيّة. تعاني هذه الأحزاب من الوصول إلي جماهيرفرضت عليها الهالة والهيبة من سلطة حاكمة لم تعدم منطق القوانين الاستثنائية التي كثيرا ما برّرت بحالة الحروب الوطنيّة ( لاصوت يعلو فوق صوت المعركة) . أضعفت إلي حدّ بعيد القوي المعارضة، وسادت تعبيرات الأحزاب المستأنسة ، والأحزاب الديكوريّة .. وبدت المعارضة الحقيقيّة وكأنّها انتقاص من هيبة الدولة. لا يمكن القول إن الأحزاب السياسية المصرية بمافيها الحزب الوطني الحاكم استطاعت أن تعبر حتي اليوم بشكل كافٍ عن القوي السياسية والاجتماعية الراهنة في مصر، أو تستوعب حركتها. إنّ لذلك انعكاساته وهناك في المقام الأوّل، التوسّع السياسي خارج سياق الأحزاب (تكوين عشوائي لكثير من الحركات السياسية والاجتماعية، غلبة المهام السياسيّة علي المهام النقابيّة في النقابات وجمعيّات المجتمع المدني، وقيام بعض القنوات والفضائيّات أحيانا بدور الأحزاب) ولقدشاهدنا بأعيننا استغلال جماعة الإخوان للنقابات المهنيّة وتحويلها إلي مقرّات لجماعة لاتحظي بالشرعيّة. ممّاعطّل هذه النقابات عن القيام بواجباتها المهنيّة، واستلب الحضور الجماهيري لآلاف المهنيين بعيدا عن المهمّة الصعبة لتجديد الدولة المدنيّة، والمفروض أن تكون النقابات المستقلّة إحدي وسائلها الهامّة. وممّا لاشكّ فيه مهما اختلفت توجّهاتنا، أنّنانعيش المرحلة الأصعب حتّي فبمجرّد تحديدها وتعريفها. وذلك في بيئة محلية من التزايد السكّاني الهائل ، وتسييس الدين مع دروشة المجتمع، وأحوال التنمية وعلاقتها بالانتاج والبطالة وكلّ ما تقوم به الرأسمالية العشوائية. والإخلاص لأبنائنا وبناتنا يلزمنا المسئولية إزاء التحرّكات العديدة للمواجهات التي تكاثرت في الأعوام القليلة الماضية، من إضراب عمّال المحلّة إلي نزول شباب 6 إبريل الأخير في ميدان التحرير. هذه التحرّكات تتعقّد وهي تواجه صعوبة الوصول إلي الجماهير ، وقد تخطئ وتصبح غيرقادرة علي تأكيد طابعها السلمي غير المضمون . والسياسي من التحرّكات منعزل عن ذلك المتعلّق برفع الأجور والشكوي من غلاء الأسعار، وسوء الخدمات وحالة البؤس في المناطق العشوائية .. نعترف بأنّ الحكومات المتعاقبة لم تستطع أن تواكب بشكل ملموس النداءات الجماهيرية، وفي الوقت نفسه لايمكننا ألاّ نرتعب من شرارة ضمن الشرارات العديدة التي تتطاير في البلاد نتيجة للأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية وإثارة الفتنة الطائفية.تجد السياسة نفسها في حاجة إلي تعبيرها المؤسّسي الصحيح ( الحزب).