التاريخ ذاكرة الأمم والشعوب, والأمة التي لا تعرف تاريخها كالإنسان فاقد الذاكرة الذي لا يعرف من هو علي وجه التحديد ومادوره في الحياة وما الذي يجب عليه أن يفعله وكيف ولماذا يعيش؟. وللأسف الشديد بات هذا هو حال الكثير من شبابنا اليوم.. فهم يبدون تماما مثل فاقد الذاكرة الذي يسير في الحياة بلا وجهة أو هدف. لو استوقفت شابا علي قارعة الطريق وسألته ماذا يريد علي وجه التحديد.. ما هو طموحه ما الذي يمكن أن يقدمه لوطنه أو حتي لنفسه ماذا يعرف عن حضارته.. عن ماضيه.. عن حاضره عن دينه.. عن دستوره.. عن أبسط الأشياء.. ربما تصدمك اجابته كثيرا.. والمؤسف حقا أن الأمر هنا لا يقتصر علي طائفة غير المتعلمين فالمسألة برمتها لا علاقة لها بذلك علي الإطلاق فهي تتعلق في المقام الأول برغبة الفرد في المعرفة والتحصيل وبمدي انتمائه لوطنه واعتزازه بتاريخه وحضارته. وكلنا يعلم أن الأمة الإسلامية لم ترتق وتتفوق قديما علي كل الأمم إلا بالمعرفة ففي ظل إدراك المسلمين الأوائل لحقيقة العلم وقيمته برز أبوبكر الرازي أول من أجري عملية إزالة الماء من العين, وظهر ابن سينا الذي كان كتابه الطبي القانون يدرس في جامعتي( كمبردج, وأوكسفورد) وغيرهما وبرع جابر بن حيان في علم الجبر, واكتشف كثيرا من أسرار الكيمياء, وسبر العرب علم الفلك, فكانوا أول بناة للمراصد الفلكية في العالم, وأول صانعي المناظير التليسكوبات فضلا عن تقدمهم في فنون الهندسة المختلفة, وحتي في محاولات الطيران في السماء كان أول من فكر فيها هو عباس بن فرناس. كل هؤلاء برعوا في ظل دولة إسلامية راقية تؤمن بالعلم وتدرك قيمته وتعرف شرف العلم وفضله فالله عز وجل حثنا علي الاستزادة من العلم, وأمر بذلك نبيه صلي الله عليه وسلم فقال تعالي: وقل رب زدني علما, وفي هذا ما يدل علي شرف العلم وفضيلة الاستزادة منه وقال قتادة: لو كان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفي منه موسي عليه السلام, ولكنه قال للخضر عليه السلام: هل أتبعك علي أن تعلمني مما علمت رشدا. ولا شك أن حب التعليم والتعلم والاطلاع يعتمد علي عدة محاور أساسية تتمثل في رغبة الفرد ذاته في المعرفة, وفي مدي تعاون الأسرة, والمؤسسة التعليمية, وفي سلوك المجتمع والبيئة نحو التعليم وفي هذا لا يمكن إغفال دور أساليب التعليم ومحتويات المناهج التي أصبحت أمرا شاغلا يعزي لها الكثير من أسباب تدهور التعليم والتحصيل بصفة عامة. وأذكر حين كنت صغيرا ورغم انتمائي للطبقة الكادحة إلا أن الكتاب كان حاضرا في بيتنا شأنه شأن المأكل والملبس.. كنا نقرأ بحب.. نتابع أخبار الثقافة والسينما.. نتعلم مبادئ وأسس ديننا الحنيف بحب.. نتبادل الكتب في شتي المجالات ونتباري في اقتنائها.. لكن الأمر الآن لم يعد كذلك اليوم بالنسبة للسواد الأعظم من شبابنا.. فنادرا ما تجد شابا يقرأ بقدر حب وشغف الماضي.. ولم يعد الكتاب حاضرا كما كان.. أصبح الكثير منا يستقي معلوماته بنظام الوجبات السريعة التيك أواي من وسائل الإعلام المختلفة والاتصالات الحديثة ك فيسبوك وتويتر وغيرها. وهنا بات الأمر أشد خطورة فإذا كانت هذه الوسائل تقدم المعلومة طازجة وسهلة إلا أنها كثيرا ما تضع السم في الدسم من خلال بث شائعات مغرضة هدفها هدم المجتمع ومعتقداته فأصبحت هذه الوسائل مجالا مفتوحا ليس للمعرفة فحسب وإنما للفساد أيضا وتسهيل الانحراف وإغراء الشباب علي الدخول في منزلقات وأمور ما أنزل الله بها من سلطان. وهكذا ابتعدنا أكثر عن الكتاب وعن شغف ومتعة القراءة والمعرفة الصحيحة كما غابت القدوة واتسعت فجوة جهلنا حتي أصبحنا نتكلم في كل شيء.. وعن أي شيء.. فيما نعلم وما لا نعلم فاختلط الحابل بالنابل والغث بالثمين.. وأصبحنا مجتمعا مشوشا بلا ملامح. المطلوب منا جميعا الآن أن نعود كما كنا حتي نعرف كنهنا والي أين نحن ذاهبون وكلنا يعلم أن أول ما حرص عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد هجرته الي المدينة هو بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام ولم يكن هدف الرسول صلي الله عليه وسلم ايجاد مكان للعبادة فقط, ولكن مهمة المسجد كانت أعمق من هذا, لقد أراد الرسول ص أن يبني بيتا لله وبيتا لجميع المسلمين يجتمعون فيه للعبادة والمشاورة فيما يهم أمر الإسلام والدولة الإسلامية, ويتخذون فيه قراراتهم, ويناقشون فيه مشاكلهم, ويستقبلون فيه وفود القبائل وسفراء الملوك والأمراء من هنا وهناك, وبأسلوب العصر الحديث اتخذ مقرا للحكومة بالمدينة, فكان المسجد بهذا الوضع أشبه بمدرسة يتعلم فيها المسلمون, وتمتزج فيها نفوسهم وعقلياتهم. ولم يعد هذا للأسف متوافرا الآن بل علي النقيض باتت المنابر تبث الفتنة والفرقة وظهرت دعوات وفتاوي جاهلة الدين منها براء تعيدنا مئات السنوات الي الخلف وينساق وراءها الكثيرون من شباب الأمة المغرر بهم نتيجة لجهلهم بأبسط أمور وقواعد الدين.. إننا بحاجة لأن نقرأ.. لكي نعرف.. وحين نعرف سنتقدم ونعود كما كنا من أعظم الأمم وفي مقدمتها.. فتري هل يتحقق الأمل.. هذا هو السؤال.. وللحديث بقية.