تضرب الطبول, تدق الدفوف, يذهب الحوار ويجيء, أضحت القعدة روتينا لا يفتقده الصخب, يرفع العمدة نبرات تعليقه, الأعناق تشرئب, والآذان تنشده وأنور الجندي جالس فوق الدكة, ينتظر انفضاض مولد سيدي العمدة فمنذ شهر لم يغادر قعدته هذه في مثل هذا الموعد. مع المد والجزر والترقب يأتيان.. بخطي ذابلة, خطوة.. خطوتان.. نصف خطوة.. ضجيج المزادات يعلو, وجيداهما مكبلان بأطواق التعب, يقعدان. ما الذي أتي بهما الآن؟! عموما مجيئهما فرصة لإزاحة جبل الهم من فوق صدري. أقول لهما: أين فواتيركما؟! يخرج( غريب) لفة فواتير, تتقلص أمارات وجهه, تتصلب أناملة علي أطراف الفواتير, أقول: للعمدة أحد عشر ألف جنيه. ينهنه أسامة: هذا الحساب غلط. صاح العمدة: أين الخطأ؟؟ هبط سكون الترقب, ربما يهدأ فوران الصدور الكظيم, أحضر أيمن النارجلية, حيلة جيدة وسهلة لالتقاظ الأنفاس وللتفكير في كيفية الهروب من كمائن الموقف لقف,( أسامة) المبسم شافطا نفسا عريضا, فقد نفدت سجائره الأجنبية. صوت أنور الجندي يرجني: أأنهيت كشف حسابي؟! حسابك في الدفتر ياكبير, وربما يزورنا غواص البئر ويستخرج من جوفه أربعين رزمة بأربعين ألفا, قل آمين. أتلفت بعيدا تجنبا لآثار قنبلتي, تجهم العمدة, يحتد: النهار طويل يا أنور, رح شف مصالحك أولا, وفلوسك محفوظة, ياما أدنتك ولم أقف عليك كالديدبان! الأدخنة تتماهي, يستنهض غريب الأرقام في ذهنه, يضرب ويقسم, يطرح, يكح, يريل, ويجف حلقه, دوشة في عقله, الدوائر الكهربائية في جهازه العصبي توش, أضحي أزيز الكهرباء سوطا لاسعا لخلاياه, الدوخة تصفد جبينه, والشيشة تفاقم التوتر, ألم تسمع المحلل يشرح قائلا: نفس المعسل يطس الحلق, فتتدفق الأدخنة من الفتحات وخلال هذه الرحلة يتشابط الادراك ويترنح. ينظر غريب في وجه أسامة, يحثه علي الكلام, يخرج الأخير نوتة من جيبه, يقلب الصفحات, ألمحها بيضاء, ركن الأولي, طرح الثانية والثالثة, أسأله في غيظ: أين حساباتك يامعلم؟ كيف ربطت هذا المبلغ علي نفسك؟ لن يشفع لك انك أخي حتي لا تدفع بنبرات هزيلة يقول: موازين الفواتير أقل من موازين الباسكول بعشرين طنا. أنا حرامي وأنت مغفل, أعندك اعتراض؟! هكذا قطع العمدة جسر المساومة, أنور الجندي يوبخ ابنه: كل ما يقوله صدق. والابن يتقول: من الحكمة أن تصدق! ها هي الأزمة تقتحمك يا فالح, ماذا ستفعل؟؟ لا تملك إلا أجرك الزهيد, والذي تلتهمه زوجتك مع طلعة كل صباح, تربط حزام الكفاف علي بطنها طوال العام, تفك أزارها هذا الشهر, تخرن شنط السكر والأرز والزيت والسمن, وظيفة. الحكومة لا توفر إلا الخبز الجاف, لا تسخر مني وتدعي أن العيش ندروجوده! توفر أجازاتك لتستنفدها في هذا الشهر, وتتحمل سخافات مدير الإدارة, وتهكمات وكيله, طيب ياسيدي لو دفعت أجرك ككاتب حسابات ورئيس فرقة رص البطيخ, فلن تسد نصف المبلغ, وأجر الرجال يافارس كيف تستوفيه؟؟ آه.. عقلي كاد يتشظي وينفرط عقده. أسامة يتأمل وجه غريب الجاف: اتتركني أغرق؟ العمدة يمعر: قولوا: ما بقيت فلوس, وأنا( مش) عاوزهم, والله ما يسهل لكم, فأنا طول عمري فريسة لنصب الأقارب, وليس في الأمر من جديد. يشمر العمدة كمه, تنتفض عروقه, يداعبه الهياج, يقلب ذاكرته المرتبكة: أهل صباحا وجيوبي فارغة, عشرة رجال يمسحون لي الكرسي, تنقضي الساعات الطويلة في كركرة الحشيش ولعب الورق, والهزار عمال علي بطال, أغادر المحل وأوراق النقد تبز من سروالي, وفي كل المساءات أمارس حياة التسكع هكذا يردد الحاقدون. قال مجلس الحي: سوق روض الفرج تقبع في صرة البلد, تحتل مركز الدائرة, وجودها يربك المرور والأخلاق, قلت للعمدة: ندفع مقدم محل في العبور. للأسف ودن من طين وودن من عجين معتقدا أن المحكمة لن توافق علي نقل السوق.. حفاظا علي هيبة الدولة نقلوها إلي أطراف الصحراء وانتقل العمدة الكبير إلي سوق ساحل مصر القديمة, يستأجر محل الجدي في موسم البطيخ, انهارت مملكته, الأعوام تمر والحال لا يتغير, من المنطق أن أثور, وأطرد كل الرجال زعماء عصابة استنزاف العمدة, وأقصر تجارتي علي عميل واحد, رجب استرليني, فلاح قراري, ولكي أنجح أسوي معاش والدي عنوة أجبره علي القعود في سوق لا تتسع لبناء ديوان ولا حطب فيه لنيران حاتم الطائي, سنوات وتجارتي تتقلص حدودها, لم أندم علي قرار اتخذته, فأنا المغني الوحيد في الجوقة, أمكتوب علي الغناء, من الوضع واقفا, فلماذا لا أجلس علي خشبة المسرح؟؟ صوتي قوي فلماذا المسرح والجوقة؟! الجمهور ايضا لا يجيد السمع فدعك منه. ما جدوي الفلوس وزوجتي تنثرها كالرماد! خلف جلباب العفة راقصة, والآن الجميع يمد سكينه يبغي اقتطاع لحمي. زعابيب المزادات تهب, البائعون يهرولون كأفلام الأكشن, الاولاد يحملون البضائع فوق عربات نصف النقل وموسيقي الزعيق والسباب تملأ الجو بالمدارات الصوتية المتقاطعة, وعربي الجدي يتعارك مع البائعين علي فلوس الغفر, يساومونه ولكنه لا يقبل إلا المبلغ الذي حدده, يقبض المعلوم ويغافلهم ليسرق بضاعتهم تتصادم العربات والغلبة للنوابيت الفتية.. يتجه إلي العمدة بكليته زاعقا: لا أعرف أحدا سواك, فأنت الوحيد المسئول أمامي. ما قلت لك أعطيهما هذا المال. ما دفعت لهما إلا لاشتغالك عندي صيفا. كذب, شاركتهما طمعا في الكسب, ولإيجاد عمل لك في الشتاء. بل أنت المخطط لهذا الكمين. فعلا أنا الذي جلست معهما, رسمت المسالك لتحقيق مائة ألف جنيه أرباحا لك يا باشا, وكأننا في دنيا الخيال. نوايا أخيك سيئة والسوق نام. بدليل بيات أجولة البصل علي الأرصفة شهور الشتاء دون بيع. والآن أمض ايصال أمانة. عين العقل يا ذوق. صمت ثقيل, الهواجس تهاجمني, أبعد هذه الخدمات أوقع علي صك مديونية, فمنذ مواسم بعيدة يتركني في الظهيرة بدون مليم واحد تاركا رزمة فواتير لازمة السداد وقيمتها تتعدي مبلغ العشرين ألف جنيه, الف كالنحلة مستدينا المبلغ من معلمي العهد, وفرج صاحب المطعم, ولولا ثقتهم ما أقرضوني مثل هذا المبلغ والآن مطلوب مني صك ورقة دين بمبلغ أحد عشر الفا من الجنيهات والمعلم أسامة يسلب قوت أولادي, كل عام يغربلني وكأنه خلق خصيصا لتأديبي, تنصل غريب شريكه من الدفع, وتخشي الفضيحة, ففي بلدكم لا يعرفون هذه الملابسات, ولن تجد عندهم سوي التشهير, فغراء العار يلطخ ثوب العائلة, وأمك ستلخبط مفردات اللوحة بدموعها المدرارة, ستنشر غسيلك الوسخ في طريق الشامتين, ستتذكر قلبها المنفطر وقلبي الحجري, أنتبه علي صوت مدحت: لن توقع. يهينهم العمدة: وفلوسي أكلها الغراب وطار. يهرب العمدة, يحكم مدحت: اخصم له فلوس رصاصة البطيخ, ولن يتبقي إلا خمسة آلاف جنيه. أردد والفهم غائب: لو كان القاضي ينصف الشاكي ما كان الشاكي رجع باكي. تدق الطبول, تضرب الدفوف. عصام الدين محمد أحمد الجيزة