كانت السينما في معظمها تعتمد علي السرد الكلاسيكي المستمد من نمط السرد الأدبي الروائي, وأضيف لهذا الفن خصية جديدة ألا و هي العبور عبر الزمان والمكان و ذلك من خلال العودة بزمن السرد للماضي من خلال ما أصطلح عليه' بالفلاش باك', بالإضافة لإمكانية الجمع بين حدثين يجريان في وقت واحد ولكن في مكانين مختلفين. لم تخرج عن تلك القاعدة سوي بعض أفلام لوي بونويل والتي كانت تدخل في أطار مدرسة' الدادية' وهي حركة فنية بدأت مع الشعر وانتقلت للفن التشكيلي ثم للسينما وبالتالي كانت في كل المجالات تلك خروجا عن المألوف و الكلاسيكي ووضح ذلك في السينما مع أفلام مثل' الكلب الأندلسي' لبونيل. جاء فيلم' الحياة حلوة' لفيليني ليكسر هذا البناء الكلاسيكي في السينما من خلال فيلم مكون من أجزاء منفصلة متصلة تجمعها الشخصية الرئيسية في الفيلم مارشيلو روبيني( مارشيلو ماستورياني) ابن الأقاليم الذي كانت لديه مواهب أدبية ولكنه تخلي عن كتابة الأدب ليعمل في جريدة في العاصمة روما تهتم بأخبار النجوم والحوادث و الفضائح. الفيلم يبدأ بتمثال كبير للسيد المسيح ينقل جوا مربوط بطائرة هليكوبتر لصالح الفاتيكان لندخل مع هذا المشهد لجو إيطاليا ما بعد الحرب, ايطاليا بداية عصر الاستهلاك الموسع وظهور الطبقات الجديدة من الميسورين وبالذات من الطبقة المتوسطة, فحتي الفاتيكان يستخدم الهليكوبتر لنقل تمثال المسيح, نحن في مرحلة جديدة من حياة إيطاليا. مارشيلو يطوف الأماكن الفخمة في العاصمة الإيطالية مصطحبا معه مصور الجريدة لالتقاط صور للمشاهير في سهراتهم بعيدا عن العيون و يلتقون مع أحد أفراد البرجوازية الكبري في روما وهي تسهر في كباريه ليقضي الليل معها في أحد المواخير, بعد ذلك يعرف بأن صديقته قد أقدمت علي الانتحار لتجاهله لها, فيأخذها للمستشفي. فيليني يرد أن يوضح أن العلاقات الاجتماعية التقليدية في إيطاليا قد شهدت تغييرا كبيرا, فلم يعد مفهوم الإخلاص أو الحب أو حتي الزواج والأسرة كما كان من قبل, بل أن النفعية و المصلحة واللذات الوقتية هي التي تسيطر الآن علي الطبقات المتوسطة الجديدة. الأجزاء التي تظهر فيها الممثلة الأمريكية سيلفيا( أنيتا أكبربيرج) منها جزء خاص عن بدايات صناعة أسطورة النجم في إيطاليا( وبالتحديد نجوم السينما الأمريكية) عبر الاستقبال الحافل في المطار عند وصول النجمة من قبل الصحفيين والمصورين, أما الجزء الخاص بلقاء مارشيلو بالنجمة سيلفيا والذي تستحم فيه بنافورة تريفي فهو تجسيد لحالة العبث الوجودي الذي تحيي فيه نخب ذلك العصر والذي كان بداية لعصر الاستهلاك الموسع الذي أجتاح كل أوروبا حتي يومنا هذا وانتقل لجميع أنحاء العالم. يري الكثيرون ان هذا المشهد هو أصل و بداية الإعلانات المصورة الفعلي حيث أن كسر كل القواعد الاجتماعية و المنطقية( النزول للنافورة بكامل الملابس) يعد حلم للكثير من أفراد مجتمع شديد القسوة في قواعده الخاصة بالعمل والحياة, ليكون لسان حال المشاهد ليتنا نهرب من كل هذا كما فعل بطل و بطله الفيلم( لكن بالطبع يتطلب الأمر الكثير من الشروط لتحقيق هذا). تصدير هذا الحلم للجمهور عبر المشهد التاريخي يكفي أن يكون مقدمة للإعلان علي أي سلعة تأتي في نهاية المشهد حيث سيربط المشاهد بينها و بين روح الحرية وهدم القواعد التي يجسدها المشهد في ذهنه. كما يقدم الفيلم المعجزات المزيفة في إيطاليا مع قصة ظهور العذراء والتي يكتشف في النهاية أنها ليست سوي خدعة من أجل استغلالها تجاريا. كما يرصد الفيلم أزمة المثقف في المجتمع الجديد المتحول عبر شخصية صديق مارشيلو المثقف' ستينير' الذي عرف مارشيلو في الفترة التي كان يكتب فيها الأدب وحالة اليأس والغضب من قبل مارشيلو عند مقابلته مع هذا الشخص المثقف ألذي يذكره بتركه مجال الأدب لصالح صحافة الفضائح, مع ذلك يسعي مارشيلو للالتصاق به ويذهب لجلسات المثقفين لرغبته في أن ينتمي للمثقفين. لكن هذا المثقف الذي يتعالي علي مارشيلو يبدو عليه الإحباط ويقول كلاما مبهما علي المستقبل و الكارثة القادمة وينتهي الأمر به بالانتحار. هذه المشاهد هي تجسيد لبداية انعزال المثقف عن المجتمع وشعوره بالاغتراب ليجسد الانتحار نهاية دور نموذج المثقف في المجتمع الذي حاول الفيلسوف السياسي الايطالي جرامشي الدعوة لها. بل ان الفيلم يقدم الحفلات الماجنة التي كان يحضرها مارشيلو مشيرا لظاهرة تحول المتعة واللذة إلي إأله مجتمع الاستهلاك الجديد, وهو ما تطور فيما بعد بشكل أكبر في المجتمعات الغربية وأصبح الهدف الأساسي لتلك المجتمعات هو الحصول علي المتعة والمزيد من المتعة سواء كانت متعا جنسية أو غيرها وهو ما كان جديدا علي المجتمع الإيطالي ولكن فيليني رصد ذلك منذ البداية وهو ما حاول كوبريك رصده فيما بعد في فيلم( عينان مغلقتان باتساع). الفيلم يعد بيانا سياسيا اجتماعيا لما سيحدث في الغرب بعد ذلك وحتي يومنا هذا من تفكك أسري وانحسار تكوين أسر جديدة لانخفاض الرغبة في الزواج وانعزال المثقفين عن المجتمع والتغييرات الحادثة فيه واكتئابهم و نهاية دورهم, مجتمع هدف أفراده من النخب الجديدة الحياة من أجل مزيد من المتعة وتعظيمها, مجتمع أصبح يتجه نحو السطحية, بل أنه أشار إلي ظاهرة عدم الحوار بين الأجيال وعدم الالتفات نحو الأجيال الجديدة من قبل من سبقوهم مع المشهد الأخير حين يتجاهل مارشيلو نداءات الشابة خادمة المقهي في نهاية الفيلم, لم ينقص هذا الفيلم سوي صعود كرة القدم كوسيلة من وسائل احتواء الصراع في المجتمع وهو ما قدمه فيليني بعد ذالك في رائعته( روما فيليني). [email protected]