داهمته الهموم مبكرا..بعد وفاة والده..وبدلا من أن تسقطه الصدمة.. قوته.. واستطاع الوقوف علي قدميه.. بدل أوراق الجامعة من انتظام إلي انتساب.. بعد أن وجد عملا في إحدي الورش التي تعمل في صيانة وضبط إطارات السيارات.. ثلاث اخوات وأم مريضة لاتقوي علي النهوض من الفراش الذي سبب لها قرحة فراش وآلاما في الظهر أحلامه التي كانت تلمس السحاب وتعانق النجوم..أصبحت متواضعة..بعد أن أصبح مسئولا عن أمه واخواته.. توقف سيارتها..لتملأ إطاراتها بالهواء..في ربيع العمر..أسكرته عيناها..وحاصرته..وهيأته لماتريد.. سألته عن مكان قريب تشتري منه مياها معدنية..؟ مسح المقعد الوحيد بيديه..طالبا منها الجلوس.. واستأذن لغيابه للحظة..بعد وقت قليل..عاد ومعه زجاجة مياه معدنية..كانت عطشي.. استمتع بمراقبتها..والماء ينساب في شفتيها كاللؤلؤ المنثور في إناء من الورد..تمتم بكلمات لم تسمعها..سألته عنها..فأجاب: لاشيء..كنت أقول حين يسري يمري.. بعد أن أوضح لها المقصد من قوله..شكرته وبادلته الابتسام.. بجوار كبريسور الهواء..وجدت كتابا حقوقيا..سألته عنه أجاب: إنه له فهو يدرس في كلية الحقوق..هي الأخري طالبة في الحقوق..أليست مصادفة طيبة..قالتها وهي تؤكد سعادتها بلقائه.. أعطته ورقة مالية فئة العشرين جنيها ثمنا للمياه المعدنية..وملء الاطارات.. رفض بشدة قائلا: لن أخذ سوي جنيه واحد ثمن ملء الاطارات طلبت رقم هاتفه..وانصرفت.. في الليل إستسلم لنوم لذيذ وهادئ..وصورتها..لاتفارقه..قفز من أحلام اليقظة علي رنين هاتفه..إنها هي..هل يمكن للمطر أن ينهمر في الربيع..وتملأ جداوله في الخريف عكس قوانين الطبيعة..فتح الهاتف غير مصدق.. أنها تسأله عن إسمه..وبدوره سألها عن إسمها..وتدور بينهما حوارات عذبة..تحمل عطر ملامحها المطبوعة بميسم جمال شديد الخصوصية..ويكون لها ذلك الحضور اللافح الذي باغته..وجرده من كل أسلحة الدفاع عن النفس..إستمرت حواراتها السابحة في أجواء رومانسية رقيقة..حتي فصل شحن الهاتف.. بعدها إستسلم لمناوشات أفكار تتداعي..يأخذ بعضها.. برقاب البعض.. وتتناثر كشظايا البللور المكسور في شكل أسئلة تطن في سمعه..وكأنها سرب من زنابير الحقل..ولأن للأقدار رأيا أخر في ترتيب أمورنا في كثير من الأحيان ومن الحكمة أن تتوافق مع تيار الحياة.. إشتد الألم بوالدته..شريان حياته.. التي نقلها علي الفور إلي مستشفي حكومي.. فهو لايقدر علي المستشفيات الخاصة ذات الخمسة نجوم..كتبوا له روشتة بالدواء غير الموجود بالمستشفي..والذي لابد من سرعة شرائه من الاجزخانة القريبة..والتي غالبا ماتسترد أغلب الدواء من المستشفي بنصف الثمن..الأم لاتكف عن الصراخ..الألم يزداد..سأل عن الطبيب..الذي وجده في استراحة الأطباء.. ممدا ساقيه فوق مقعد وثير..يحتسي بتلذذ قهوته ويقرأ في الجريدة.. صرخ في وجهه..أمي بتموت.. أرجوك يادكتور.. أجابه الدكتور ببرود ألفه: لاتقلق..سأطلب من الممرضة أعطاءها حقنة مسكنة..ركع علي الأرض.. يستحلفه بكل غال لديه سرعة إنقاذ والدته..الطبيب لايرق جانبه ولايتأثر..صراخ الأم يمزق قلب الابن..الذي أمسك بياقة بالطو الطبيب صارخا: أمي يتموت وانت تقرأ في الجريدة..استنجد الطبيب بالأمن الذي صحب الأبن بعيدا..بعد أن أوسعوه ضربا..واقتادوه الي قسم الشرطة القريب من المستشفي..وهناك إتهمه الطبيب بالاعتداء عليه..أثناء تأدية عمله..وشهد معه الممرضون والعاملون مجاملة للطبيب دون مراعاة الله.. في محبسه..تلقي خبر وفاة والدته..لم يبرح ذلك الركن المواجه لشباك محبسه..وقد تساقطت عليه خيوط واهنة من الضوء الشحيح وهو جالس في وضع القرفصاء..رأسه ساقط بين قدميه.. بعد يوم وليلة..فتح الحارس الباب..ليجد الطعام كما هو..لم يتناوله..حاول أن ينهضه للمثول أمام النيابة.. وهو مكوم..كالجنين في بطن أمه..فلم يستجب. محمد محمود غدية/ المحلة الكبري [email protected]