حلت الذكري السابعة والثلاثون لحرب أكتوبر المجيدة في وقت لم يكن الجدل الطائفي في مصر قد توقف, وهو مشهد أثار في النفس ذكريات عديدة, ففي مثل هذا اليوم من سبع وثلاثين سنة لم تكن القضية الطائفية مطروحة في مصر علي النحو الذي نشهده اليوم, صحيح أن مؤشرات التوتر الطائفي كانت قد بدأت تعرف طريقها إلي بلدنا بفعل وطأة هزيمة يونيو1967, وما ترتب عليها من انتكاسة للمشروع القومي, وتقدم المشروع الديني القدري الغيبي ليحل محله, إضافة إلي بدء تبلور سياسات الشقاق الطائفي التي تبناها الرئيس السادات والتي عبرت عن نفسها في حادث الخانكة الذي يؤرخ له في مصر باعتباره أول حادث طائفي تشهده مصر منذ عدة عقود. حلت ذكري حرب أكتوبر فأثارت في النفس شجونا عديدة, ففي تلك الفترة كانت مصر دولة ومجتمعا لديها مشروع قومي هو الثأر لهزيمة1967, رد الاعتبار, استعادة الأرض وتحرير التراب الوطني. في تلك الفترة أتذكر أن بلدنا لم يكن يشهد مظاهر طائفية شكلية, ولا تراشق طائفيا أو سجالا دينيا بين أبناء المجتمع, وبالقطع لم يكن أمام رجال الدين من الجانبين, أي فرصة للعب دور سلبي, فعلي القمة العلاقات ودية وودودة, أما مجتمعيا فلم تكن قضية الدين مطروحة, كما لم تكن محل تساؤل, ولا كان أي من الفريقين مهتما بالمساس بعقيدة أو ديانة الآخر, ولا كان ما يعبد أمرا يخص غيره, لم يكن رجال الدين الإسلامي يشغلون أنفسهم بعقيدة المسيحيين, ولا كان رجال الدين المسيحي يناقشون قضايا إسلامية كقصة جمع القرآن أو الأحاديث, ما بين صحيحة أو مدسوسة. أذكر أيضا أن صيحات' الله أكبر' التي رددها الجنود المصريون أثناء عبور القناة, كانت تدغدغ مشاعرنا جميعا, لم يتساءل أي منا أمامها عن إسلامية الشعار, ولا توقف أمام مغزي ترديده, فقد كانت المصرية تتغلب علي ما عداها من اعتبارات, كانت مصر, ومصر فقط, لا توقف المسيحيون أمام شعارات ذات مدلول إسلامي, ولا سأل أي منا عن ديانة جندي من الجنود أو قائد من القادة, كان الجنرال الراحل فؤاد عزيز غالي يقود الجيش الثالث, فلم تكن مصر ولا المصريون مستعدين لسماع كلمات قالها لاحقا المرشد السابق للإخوان المسلمين مهدي عاكف, وشدد فيها علي أنه لا مجال لتجنيد' نصاري مصر' في الجيش لأنهم يمكن أن ينضموا إلي العدو!! مثل هذه الكلمات لم يكن لها جمهور في ذلك الوقت. بعد انتصار اكتوبر, بدا السادات عاجزا عن التصدي لأنشطة التيارات الناصرية واليسارية, فكان القرار بتشكيل الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية, وفتح المجال لعودة رموز الإخوان من الخليج, وفتح أبواب الهجرة أمام المصريين للحصول علي جزء من عائدات النفط, فعادوا بثقافة صحراوية أحادية, حادة, استبعادية, طمست تدريجيا ملامح ثقافة مصرية قائمة علي العيش المشترك, التعايش, التنوع والتعدد, قبول الاختلاف, باختصار كانت ثقافة أقرب إلي نتاج نظرية' بوتقة الصهر' التي مصرت, الإنسان والأفكار, بما في ذلك العقائد والأديان..تراجعت ثقافة التعايش والعيش المشترك علي قاعدة المواطنة لصالح ثقافة بدوية صحراوية, يصعب إن لم يكن يستحيل أن تتفاعل مع الثقافات والأفكار الأخري الممتزجة في بوتقة الصهر المصرية التي طبعت المصري الفرعوني, واليوناني والإيطالي والألباني والتركي..بسمات مصرية خالصة. ترافق مع ذلك سياسات أسلمة التعليم, فتم إغراق مناهج التعليم بمواد طائفية تفرق بين أبناء الوطن, وتجعل الخير والحق, الفضيلة والأخلاق سمات دينية مقصورة علي دين واحد, وبدأت عملية التجريح في العقائد الدينية المسيحية في التليفزيون المصري في برامج الشيخ الشعراوي, ولقب السادات نفسه بالرئيس المؤمن, الذي يرأس دولة العلم والإيمان.... تغيرت سياسات الدولة المصرية من فوق, فبدأت أخلاق المصريين في التغير, ذرعت بذور الطائفية من فوق, فنمت غابات التطرف التشدد والغلو, وتلقفت الكنيسة من ناحيتها حالة الانزعاج من سياسات الأسلمة, ووسعت من دورها فباتت بالنسبة للغالبية الساحقة من المسيحيين المصريين بمثابة الكنيسة والدولة معا... بمرور الوقت طرحت أشجار التطرف ثمارها المرة, وبدأ الأبناء يجنون ثمار جرائم الآباء, وسادت الطائفية كافة المناحي, وارتد نفر من الرجال ممن كانوا يتغنون بالوطنية والمواطنة إلي أرضية طائفية بغيضة, بل أنهم كانوا بمثابة مشعلي الحرائق وساكبي الزيت علي النار... علي الرغم من الأسي والألم الذي يعتصر قلب كل مصري وطني مخلص تتقدم وطنيته علي عقيدته الدينية, إلا مصر لا تزال قادرة علي الخروج من نفق الطائفية, وإعادة اللحمة إلي نسيج المجتمع من جديد, كل ذلك عبر العمل من أجل دولة مدنية حقيقية, دولة مدنية قائمة علي مبدأ المواطنة كما تقول المادة الأولي من الدستور, دولية مدنية محادية بين الأديان, دولة مدنية تظلل أبناءها بصرف النظر عما يعتنقون ويعتقدون, دولة مدنية ليس من بين مهام إدخال المواطنين إلي الجنة التي تتصورها أو التي تأتي من تصور واحد أو أحادي, دولة مدنية لا تفتش في نوايا وضمير مواطنيها, دولة مدنية لا تضع خانة لديانة مواطنيها وتحدد لهم قائمة من الأديان التي عليهم الاختيار من بينها, وإلا فأن البديل وبعد نضال طويل سيكون(-) البهائيين. ونقول هنا أن المجتمع المصري ورغم حالة التشوه الثقافي التي يمر بها, لا يزال محتفظا بقدر من قيمه الأصيلة التي يمكن البناء عليها لاستعادة مصر المصرية من أيدي مجموعة من أبنائها قرروا مواصلة السجال حول العقائد حتي ولو كان الثمن حياة وأرواح المصريين, دور مصر ومكانتها. في الختام مصر لا يمكن أن تكون إلا دولة مدنية تعددية, توافقية, متسامحة مع تاريخها حاضنة لكل أبنائها..مصر لا يمكن إلا أن تكون مصرية.