ساعة كتابة هذا المقال, كان القس الأمريكي المتعصب تيري جونز راعي إحدي الكنائس الصغيرة بولاية فلوريدا قد تراجع عن خطته لحرق المصحف الشريف بسبب ضغوط عدة ولا أدري ما سوف تكون عليه الحال ساعة نشر المقال ولكن ما يهم هو كيف وصلت حال الإسلام والمسلمين في العالم بعد تلك الغزوة المشئومة التي قامت بها جماعة التعصب الإسلامية في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر عام2001. ما قيل ساعتها أن ذلك كان نصرا للإسلام, ولكنه كان في جوهره تراجعا لاتجاه كبير شهد علي انتشار محسوس للإسلام في قارات العالم, واقتراب أكبر من جماعات المسلمين من العالم المعاصر يحاولون حل أسراره ومعضلاته الفقهية والدينية في إطار من العصر الذي يعيشون فيه. ولكن ما جري بعد ذلك كان تراجعا مخيفا, بدأ بالغزوات التي جرت للبلدان الإسلامية في العراق وأفغانستان, فضلا عن التدخلات المباشرة وغير المباشرة في أحوال الدين والتعليم والتبشير في بلدان إسلامية أخري في إطار ما عرف بالحرب ضد الإرهاب. ورغم ما كان في كل ذلك من مهانة, إلا أن النتيجة الأفدح كانت في تدمير علاقة المسلمين في الدول المتقدمة بالمجتمعات التي يقيمون فيها. وبعد أن كان المسلمون يعدون من أفضل العناصر في المجتمع نتيجة بعدهم عن العنف, والإدمان, ومحاربتهم للمخدرات حتي صارت المناطق التي يعيشون فيها خالية من الجريمة بأبعادها المختلفة, إذ بها تصير المكان الذي ينتظر منه الإرهاب والعنف والتعصب الأعمي. والنتيجة الطبيعية لذلك هي ميلاد التعصب المقابل الذي ظهر في أشكال شتي كان آخرها محاولة حرق القرآن الكريم. وقصة هذه الجريمة الأخيرة بدأت عندما أعلنت كنيسة دوف وورلد آوتريتش سنتر المعمدانية في جينسفيل بفلوريدا وتعني مركز الحمائم للتواصل العالمي, نيتها إحراق نسخ من المصحف في الذكري السنوية التاسعة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر2001, ودعت هذه الكنيسة المغمورة التي لا يزيد عدد أتباعها علي50 فردا, مؤسسات دينية أخري إلي اتخاذ الخطوة نفسها, وهي المرة الثانية خلال فترة وجيزة التي تقدم فيها الكنيسة علي استفزاز مشاعر المسلمين, إذ سبق أن أثارت صخبا واسعا عام2009 بعد أن قامت بتوزيع قمصان كتب عليها الإسلام دين الشيطان. ورغم إدراكها للتداعيات السلبية المحتملة لإقدامها علي هذه الخطوة خصوصا أنها تأتي عقب تصاعد الجدل داخل الولاياتالمتحدة حول مشروع بناء مركز إسلامي ومسجد بالقرب من موقع هجمات سبتمبر, فإن الكنيسة تبدو مصرة علي المضي قدما في الاتجاه نفسه, وهو ما أكده القس تيري جونز, وهو أسقف في الكنيسة وصاحب الفكرة, الذي قال إن كنيسته تدرك جيدا أن الخطوة ستكون هجومية خصوصا للمسلمين, مفسرا إياها بأنها موجهة إلي المتشددين وليس المعتدلين في الإسلام. وأضاف قائلا: أشعر بالأذي حين يحرقون العلم وحين يحرقون الإنجيل, ولكننا نشعر بأن الرسالة التي نحاول أن نرسلها أهم بكثير من شعور الناس بالأذي. جونز لم يكتف بذلك, بل اعتبر, قبل أشهر قليلة, أن القرآن الكريم مسئول عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام2001. وقد أثار قرار الكنيسة ردود فعل متباينة داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية وخارجها, ورغم أن معظم هذه الردود كانت رافضة للفكرة, فإنها انقسمت إلي أربعة اتجاهات رئيسية في تبرير هذا الرفض: الاتجاه الأول, رأي أن هذه الخطوة تمثل خطرا شديدا علي فكرة التعايش والتعددية الدينية وهي مبادئ أساسية قامت عليها الأمة الأمريكية, كما أنها تنتقص من الحريات الدينية التي يحظي بها الأفراد علي مختلف أديانهم. وفي هذا السياق, وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون هذه الفكرة بأنها عمل شائن وغير جدير بالاحترام. أما الاتجاه الثاني, فركز علي التداعيات السلبية المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن هذا الإعلان, ولاسيما علي أرواح الجنود الأمريكيين العاملين في أفغانستان. إذ إن خطوة من هذا النوع يمكن أن تنتج مشكلتين: الأولي, أنها ربما تضيف إلي رصيد الجماعات المتشددة التي تحاربها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها وعلي رأسها حركة طالبان في أفغانستان التي سوف تستغل حتما الخطوة لتوسيع قاعدتها الشعبية وإضفاء نوع من الشرعية علي الهجمات التي تقوم بها ضد الجنود الأمريكيين أو الحكومة الأفغانية. والثانية, أنها سوف تثير حفيظة المواطنين المحليين, بما يمكن أن يدفعهم إلي استهداف الجنود الأمريكيين. ويستند هذا الرأي لتدعيم رؤيته إلي تكرار حوادث من هذا النوع في الفترة السابقة. فقد لقي7 أفغان مصرعهم خلال مواجهات مع السلطات الأفغانية في يناير2009, أثناء محاولة الأخيرة تفريق مظاهرة اشتركوا فيها بسبب مزاعم تحدثت عن قيام جنود أمريكيين بحرق المصحف, قبل أن يؤكد تحقيق أجري حول هذا الحادث أن حرق المصحف لم يكن إجراء مقصودا. وقد حذر قائد القوات الدولية في أفغانستان الجنرال ديفيد بترايوس من المخاطر التي يمكن أن تواجه الجنود الأمريكيين في أفغانستان في حال تنفيذ هذه الفكرة, وشاركه في ذلك الجنرال وليام كالدويل قائد بعثة تدريب قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان الذي قال إن الأنباء التي راجت حول هذه الفكرة تثير بالفعل مشاعر الغضب الشعبي في أفغانستان, مضيفا: نحن نشعر بشدة بأن هذا قد يعرض للخطر سلامة رجالنا ونسائنا الذين يخدمون هنا. فيما يصف الاتجاه الثالث إعلان الكنيسة بأنه إجراء نازي يقوم في البداية علي إحراق الكتب ثم يمكن أن يمتد فيما بعد إلي إحراق الإنسان, وهو ما يؤشر إلي احتمال تصاعد موجة من النعرات المذهبية والطائفية سوف تنتج في المرحلة المقبلة تداعيات سلبية علي الاستقرار المجتمعي داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. وقد دعا هذا الاتجاه المروجين لفكرة حرق المصحف إلي قراءة القرآن الكريم ليكتشفوا فيه قيم التسامح والمحبة واحترام الأنبياء, ويغيروا من انطباعاتهم السلبية عنه. أما الاتجاه الرابع, فرأي أن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلي إلحاق الأذي بعدد من الأقليات الدينية خصوصا المسيحيين الموجودة في البلدان الإسلامية, فضلا عن أنها سوف تزيد من حالة الكراهية التي تنتاب شعوب هذه الدول تجاه الولاياتالمتحدة بسبب سياستها في منطقة الشرق الأوسط, لاسيما تأييدها المستمر لإسرائيل. وقد استند هذا الاتجاه إلي المظاهرات العارمة التي اجتاحت العديد من عواصم الدول الإسلامية للتنديد بالخطوة التي تنوي الكنيسة الأمريكية الإقدام عليها, كمؤشر للاحتمالات السلبية المتعددة التي يمكن أن تسفر عنها. وفي هذا السياق, قالت صحيفة الفاتيكان أوسرفاتور رومانو إن حملة اليوم الدولي لحرق القرآن التي دعت إليها الكنيسة لن تحقق أي نتائج سوي أنها سوف تلحق الأذي بالأقليات الدينية في العالم الإسلامي. رغم ذلك لم تبد الكنيسة لفترة طويلة أي مؤشرات علي تراجعها عن تنفيذ الفكرة, وهو ما عكسه رد القس تيري جونز علي تصريحات بترايوس, حيث قال: يجب أن نوجه رسالة واضحة إلي المتطرفين الإسلاميين. لن نبقي أسيري الخوف والتهديدات, واصفا هذه التصريحات بأنها في غير محلها. ومع ذلك استمر الضغط علي كافة المستويات بما فيها مواقف الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية المختلفة من أجل منع ذلك من الحدوث وهو ما يبدو أنه أدي إلي وقف عملية الحرق هذه. ولكن ذلك لا يعني نهاية القصة التي بدأت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر, وربما قبلها عندما بدأت الحركات الإسلامية المتعصبة اتجاهها نحو تغيير العالم وإعادة إنشائه علي النسق الذي يظنونه هو الأكثر صوابا لسلام البشرية. الغريب في الأمر أن ذلك يحدث في الوقت الذي تظل فيه معظم الدول الإسلامية في عداد الدول المتخلفة في العالم التي تكاد تعتمد علي العالم غير الإسلامي في كل ما تحتاجه من غذاء أو دواء. ومع ذلك فإن الواقعة الأخيرة أيضا تشير إلي وجود تيار أصيل متعصب داخل الدول الغربية نفسها يطل برأسه كلما واتته الفرصة, وهو هنا لا يصفي حساباته مع الخصوم من أتباع ديانات أخري, وإنما هو في الحقيقة يريد تصفية حساباته مع الأفكار الليبرالية الغالبة علي مجتمعاته وتمثل النضج الذي وصلت إليه الإنسانية في إقامة مجتمعات قائمة علي التعددية, واحترام عقيدة الآخر, والمواطنة, والحرية المسئولة لكل إنسان. مسألة حرق المصحف إذا ليست موجهة للمسلمين وحدهم, بل هي موجهة للأمريكيين والقيم الغربية عامة أيضا. وقد أثار قرار الكنيسة ردود فعل متباينة داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية وخارجها, ورغم أن معظم هذه الردود كانت رافضة للفكرة, فإنها انقسمت إلي أربعة اتجاهات رئيسية في تبرير هذا الرفضرغم ذلك لم تبد الكنيسة لفترة طويلة أي مؤشرات علي تراجعها عن تنفيذ الفكرة, وهو ما عكسه رد القس تيري جونز علي تصريحات بترايوس [email protected]